كتاب 11

11:19 صباحًا EET

آيديولوجيا القبور

ملاحظتان استوقفتاني منذ الصبا؛ أولاهما السائح الغربي القادم إلى الأقصر قاصداً المصري الميت في وادي الملوك حيث مدافن الفراعنة وأشهرها مقبرة توت عنخ أمون، ولا يستوقفه للحظة ذلك المصري الحي الماثل أمامه وربما تتعثر فيه عيناه على حالته البائسة. يهرول السائح تجاه المصري الميت ولا يتوقف عند المصري الحي، ولذلك دلالات سأفسرها لاحقاً. الملاحظة الثانية تخص أول زيارة لي للقاهرة لزيارة سيدنا الحسين والسيدة زينب كعادة أهل الأرياف. ولفت نظري وجود قبر للسيدة زينب في القاهرة وآخر في دمشق، وكذلك الحال بالنسبة لسيدنا الحسين. أدركت هذا بحدة عندما ظهرت في مصر حركة سلفية جارفة أيضاً مرتبطة بالقبور وبالسلف؛ أول الأجداد. لكن ما أثار فضولي هو ذلك التنازع بين القاهرة ودمشق؛ أو بين الإمبراطوريتين الأموية والفاطمية وأتباعهما، على القبور بوصفها رأسمالاً رمزياً تتنازعه عاصمتان مهمتان في العالم العربي. فهل «آيديولوجيا القبور»، والآيديولوجيا عموماً، ضرورة لمن لا يتمتع بشرعية في الحاضر، فيحاول أن ينبش عنها في أنقاض الماضي؟ ضربت مَثَلَ السائح الغربي القادم إلى الأقصر بصفته ملاحظة أولى حتى لا نظن أن «آيديولوجيا القبور» تخص العرب وحدهم؛ ولكن بما أنني أكتب بالعربية، فسينصبّ حديثي على «آيديولوجيا القبور» عند العرب أولاً، أما عبادة الأسلاف عند الأفارقة مثلاً، أو تعلق الغربي بالآثار القديمة، فلهذا مقال آخر.
السؤال بالنسبة لي اليوم هو: لماذا يغرق العربي في الماضي على حساب الحاضر والمستقبل، ولماذا يهتم العربي بالموتى على حساب الأحياء، ولماذا تسيطر «آيديولوجيا القبور» بمعناها الواسع على الأحياء؟ وهل في فهم هذه الآيديولوجيا بوابة للخروج من أزمتنا؟ هل نحتاج إلى قادة جدد لا ينتمون إلى «آيديولوجيا القبور» حتى يأخذوا بيدنا إلى عالم الأحياء لا عالم الموتى؟
انشغل المصريون ولأسابيع بماذا كان يأمل رئيسهم الراحل جمال عبد الناصر، وهل كان يأتي طعامه من سويسرا أم من الريف المصري، وهل كان زاهداً، أم مثل غيره يستورد أطعمته؟ حديث شغل المصريين عن رجل رحل عن عالمنا منذ أكثر من خمسة أربعين عاماً. إنها نظارات القبور التي نطلّ بها على المستقبل ونرى بها الحاضر. هذا ما أقصده بالمعنى الواسع لـ«آيديولوجيا القبور»؛ أي إنها ليست حكراً على التيارات الأصولية السنيّة؛ بل على التيارات العلمانية الوطنية.
هناك جيل جديد من الحكام لا ينتمي إلى «آيديولوجيا القبور» بالكثافة ذاتها، ويحب أن يشجع على الخروج من سجن الماضي… فالماضي مثل مرآة السيارة العاكسة؛ مهمة للأمان عندما تنظر إلى الخلف كي تتجنب الصدام وتسير إلى الأمام بأمان. أما التركيز على المرآة العاكسة أو على الماضي، فهذه وصفة حادثة مروعة للارتطام بأول جدار، تلك هي «آيديولوجيا القبور» وتبعاتها.
إن منطقتنا لهي من أكثر مناطق العالم ارتباطاً بـ«آيديولوجيا القبور»، وتحتاج إلى جيل رافض لهذه الآيديولوجيا كي نتحرك للأمام خطوة، أو كي يمر النور إلينا للحظة. هنا لا أقول برفض الماضي على إطلاقه، ولكن يدرس على أنه تاريخ للاستفادة منه، دون أن نسكن فيه ونسجن أنفسنا بين جدرانه. ماضينا عريق ويستحق، وفيه عبر ودروس، لما فيه من كوارث وكذلك مناطق مضيئة، ولكن الحاضر والمستقبل يجب أن يكونا نصب أعيننا.
لدينا ضعف شديد تجاه الماضي وذكرياته، والشخصية العربية التوافقية في العلن غير قادرة على المواجهة ونقد الماضي، خصوصاً في اجتماعاتنا العامة. فالشخصية العربية شخصية مسرحية في المقام الأول؛ تقدم عرضاً اجتماعياً كل يوم لما تظن أنه يروق لمن حولها… شخصية لا تستطيع أن تكون نفسها في العلن، فقط تكون نفسها عندما لا يكون هناك متفرج أو مشاهد، ولذلك تغيب المواجهة ويغيب النقد. «آيديولوجيا القبور» بوصفها مادة لهذا المسرح اليومي، تجنبنا الحديث عن الحاضر ومشكلاته.
مشهد آخر أذكره، إضافة إلى المشهدين اللذين ذكرتهما في أول المقال، هو مشهد سكان المقابر في القاهرة، فهؤلاء الفقراء هم من استطاعوا بجرأة أن يخلطوا الحياة بالموت، وأن يمحوا الخط الفاصل بين القبور والقصور.
لكن يبقى النزاع على قبر السيدة زينب وقبر الحسين ماثلاً أمامنا حتى الآن؛ معركة على رأسمال رمزي قادم من «آيديولوجيا القبور». لا نصنع رأسمالاً رمزياً جديداً؛ بل نعيش على نبش القبور، وكما تنصبّ رؤية السائح في الأقصر على المصري الميت على حساب المصري الحي، نجد الحكومة أيضاً في مشروعاتها للإنارة والطرق والخدمات تنحاز إلى المصري الميت على حساب الحي، نظرة السائح نفسها تشكل وعي الحكومة في رؤيتها لنفسها ولشعبها.
ما لم نخرج من «آيديولوجيا القبور»، فإنني لا أرى مستقبلاً واضحاً أمامي يضعنا في مصاف الأمم الحديثة.

التعليقات