مصر الكبرى

10:05 صباحًا EET

البرادعي والاستشراف أو نهج الاحتمالات

الاستشراف (prospectivity) هو عملية ذهنية هدفها بناء المستقبل عبر آليات شاملة ومتكاملة. الاستشراف ليس باستقراءاً لغيب فرضته علينا الظروف دونما إرادة منا، بل هو دعوة للعمل والبناء ووضع سيناريوهات للإعداد للغد اعتماداً على تحليل نافذ لمعطيات الواقع واستقراء الوضع الراهن وإدراك آليات التفاعل النفسي المجتمعي، فالبشر ينتهجون نفس السلوكيات حتى وإن لم يقم التاريخ بتكرار نفسه. لذا يعتمد الاستشراف على تحليل تاريخ الإنسانية وفهم البيئة ومستجداتها. إن الاستشراف ليس نوعاً من التنجيم أو التنبؤ بما هو آت بل هو رؤية يجب العمل على تحقيقها أو على تفاديها. فالهدف الأساسي من عملية الاستشراف هو دعم اتخاذ القرارات الاستراتيجية التي من شأنها توجيه الفرد أو الجماعة والتأثير على الموارد الطبيعية سواء سلبياً أو إيجابياً على المدى الطويل.

يهدف الاستشراف إذاً، من ناحية، إلى تقليل الاحساس بعدم اليقين والقلق تجاه المستقبل، ومن ناحية أخرى، تحديد الأولويات وكيفية إضفاء شرعية عليها. والاستشراف بطبيعته هو عملية مستمرة دائمة لا غنى عنها، ذلك لأنه يجب القيام بها مراراً وتكراراُ لضمان فعاليتها. أكرر. الاستشراف ليس بعملية تنجيم: نذهب للعراف مرة ثم لا نحتاج له بعدما يكون قد نظر في بلورته وقرأ لنا المستقبل. الاستشراف، على العكس من ذلك، هو عملية متكررة ومستمرة من التعديلات والتصويبات في حلقات متصلة من التغذية المرتدة وفقاً للمتغيرات الزمنية ومجريات الأحداث.
الاستشراف هو رؤية وخطة للعمل على بناء مستقبل مغاير لما يفرضه التطور الطبيعي لمعطيات الحاضر، وبالتالي، لا يصبح المستقبل قاتماً في حالة رفضنا للواقع الذي نعيشه أو مجرد ثقب أسود هائل يصعب سبر أغواره في حالة رغبتنا في التغيير دونما استشراف. فالنهج الاستشرافي يعلمنا أن المستقبل بالنسبة للإنسان هو مساحة من عدم اليقين تتقاذفها عدة احتمالات مستقبلية بعضها مرغوب وبعضها مكروه، وكل ما يجب علينا فعله هو العمل على زيادة فرصة الاحتمالات المرغوبة وتحجيم مخاطر الاحتمالات المكروهة.
ويرى المتخصصون أن الاستشراف هو في المقام الأول حالة ذهنية تستلزم دقة في التخيل وقدرة على تجاوز القوالب الاعتيادية. فكما يقول جاستون برجي، فإن الاستشراف يقوم على خمسة مبادئ: نظرة بعيدة المدى (حيث لم يعد مناسباً النظر فقط للنتائج المباشرة لأفعالنا الحالية)، رؤية واسعة (ويُقصد بها الاستعانة بخبرات متنوعة لمواجهة ترابط الظاهرات عوضاً عن الاعتماد على نهج واحد فقط)، تحليل عميق وشامل (ويُقصد به دراسة العوامل التي تدفع الانسان في بعض الاتجاهات دون الأخرى)، القدرة على المجازفة (ويُقصد بذلك البُعد عن التفكير بأسلوب رد الفعل للأمور الطارئة والعمل وفقاً لمنهجية المشاريع التي تمنحنا حق الحلم والسعي لمستقبل مختلف) والتفكير في الإنسان (إي اعتبار الاستشراف نوعٌ من المعرفة في خدمة الإنسان وتقييم الاحداث ونتائجها بما يخدم الإنسانية).
إن العين المتبصرة والذهن المستشرف يعملان على رصد أو خلق الفعاليات والاحتمالات – الممكنة والفارقة في ذات الوقت – والتي من شأنها إحداث التغييرات المأمولة مع مراعاة قدرة كافة الأطراف على رد الفعل أو التكيف ورغبتهم في تغيير النظام في لحظة ما، دون جنوحٍ في خيال يصعب تحقيقه أو التقيد بمعطيات جامدة.
إن الاستشراف أصبح آلية استبقاية لا غنى عنها فرضتها علينا وتيرة التغيرات التكنولوجية والاقتصادية والاجتماعية الجامحة. فالاستشراف هو التحول الدافع للتغيير المأمول اعتماداً على الذكاء الجمعي ومنهجية المقاربة النسقية وفرق العمل المتعددة التخصصات.
تدافعت في ذهني مفردات النهج الاستشرافي بكل أهميته وحيويته مرتين بالبارحة. المرة الأولى وأنا مع مجموعة من الاصدقاء كانوا يوجهون انتقاداً حاداً للبرادعي يتهمونه بالهرب من المواجهة والاكتفاء بالانتقاد عبر تويتر. والمرة الثانية وأنا اتصفح الانترنت وقرأت عن أنباء تتواتر بشأن ترشيح البرادعي لتولي رئاسة الحكومة. فبدأت اسأل نفسي لماذا انتظر بفارغ الصبر تغريدات البرادعي وأجدها ملهمة بينما يراها غيري وسيلة غير جدية للتعبير عن الرأي؟ وهل أريده أن يصبح رئيساً للحكومة؟
وكانت الإجابة على سؤالي الأول هي إن اهتمامي بمتابعة تغريدات البرادعي يرجع إلى إعجابي بقدرته على الاستشراف والتخيل الدقيق دون جموح في الخيال أو تقيد بمعطيات الواقع. وهذا ما جعلني انظر إلى البرادعي بصفته قائداً مُلهِماً ومحفزاً لقدرتي على التخيل البناء. فالقائد ليس عليه أن يكون مُلهَماً لا يُخطئ بل مُلهِماً للآخرين. والقائد الحكيم هو الذي تتجاوز أهدافه مصلحته الشخصية لتصب في المصلحة العامة فهذا ما يضمن له استمرار وضوح الرؤية أو القدرة على تعديل المسار. والقائد الشجاع هو من يملك شجاعة الثبات على مبادئه مع إدراك الفرق بين التمسك بالمبادئ والتعنت في الرأي.
هكذا أرى البرادعي: قائداً ملهِماً، حكيماً وشجاعاً، ذو قدرة رفيعة على الاستشراف الاستراتيجي. هو بالنسبة لي قائد الثورة المصرية الذي لاحقته، وعلى مدار ستة عشر شهراً هي عمر الثورة المصرية حتى الآن، مطالبات بالترشح لرئاسة الجمهورية أو بتشكيل حكومة إنقاذ وطني أو إنشاء حزب. ثم ها هي ذي تتواتر أنباء بشأن ترشيحه لمنصب رئيس الوزراء، مع ترحيب من البعض واستشعار البعض الآخر أن هذا المنصب دون مستوى البرادعي. لذا قررت بدوري أن اعتمد على النهج الاستشرافي وأحاول أن أعرض رؤيتي.
لم أكن متحمسة لفكرة ترشح البرادعي لرئاسة الجمهورية لأنه كان يزعجني فرط إعجاب قطاعات كبيرة من الشباب به في وقت نريد أن نكسر الصورة الذهنية للزعيم الأب المُلهَم (لا المُلهِم). نحن نريد أن نكتب دستوراً جديداً يبني لنا دولة العدل والكفاءة ولدينا تراث ثقيل وطويل من تأليه الحاكم الفرعون. نتسأل حالياً كيف نريد أن يكون نظام دولتنا: رئاسياً، برلمانياً أم مختلطاً؟ وكأننا أمام مستقبل لا نستطيع سبر أغواره. وها نحن لدينا رئيساً لم يكن الخيار الأول لجماعته ويرى كثيرون أنه تنقصه الجاذبية وأن صلاحياته منقوصة، رئيساً من خارج النظام السابق لم يشارك في اختياره سوى نصف من لهم حق الانتخاب وكثيرون ممن انتخبوه اختاروه بصورة عقابية للمرشح الآخر. يمكننا أن ننظر لهذا الأمر باعتباره تهديداً قوياً للدولة قد يودي بالمجتمع للانفجار في حالة تفاقم الأمور وفشل رئيس الجمهورية في علاج اسباب االسخط الشعبي، خاصة الإقتصادية منها. ولكن يمكننا أيضاً أن ننظر إلي هذا الاختيار كفرصة لاختبار نظاماً غير رئاسياً، وهي تجربة سيكون لها مردودها الإيجابي ونحن في مرحلة وضع الدستور. لهذا اعتقد أن تولي البرادعي رئاسة الحكومة سيكون قيمة مضافة لهذا المنصب الذي يُنظر إليه باعتباره تابعاً لرئيس الجمهورية أو أقل منه. قد يكون تولي البرادعي رئاسة الوزراء هو عاملاً محفزاً لتحول الدولة من النظام الرئاسي للنظام البرلماني أو المختلط. إن البرادعي سيعطي ثقلا للمنصب ويكسر الصورة الذهنية لدى القطاع الأكبر من المصريين الذين يرون أن رئيس الوزراء لا يمكن إلا وأن يكون تابعاً لرئيس الجمهورية في الأهمية والقيمة. نحتاج أن نكسر هذه الصورة ونحن نعمل على بناء رؤية جديدة لمستقبل مصر.
بالإضافة إلى ذلك، فإن عمل البرادعي على مدار اثنتي عشر عاماً على رأس وكالة تعمل على ملفات شائكة أكسبه دون أدنى شك خبرة تفاوضية قوية وقدره على التعامل مع الأنسجة المتشابكة من المصالح والتهديدات، فضلاً عن المهارات التنظيمية في العمل المؤسسي التي تعد من أهم سمات العمل في منظمات الأمم المتحدة والتي اكتسبها بالتأكيد عبر سنوات عمله بالمؤسسة. كل ذلك يعضد من فرص البرادعي من خلخلة منظومة الفساد والمصالح الشخصية الرامية في عمق الدولة المصرية والقيام بعملية تبديل وإحلال بمعايير سليمة وبناء مؤسسات قوية اعتماداً على المنهجية العملية وآليات العمل الجماعي التفاعلي والفكر الجمعي الذي هو عصب القرن الواحد والعشرين.
هذا رأي شخصي قد يجانبه الصواب أو الخطأ.

التعليقات