مصر الكبرى
أشرف راضي يكتب : هل ستنتصر مهارة الإخوان المسلمين السياسية على قوة العسكر؟
أقدم محمد مرسي، أول رئيس جمهورية منتخب في مصر، على خطوة محسوبة، بأدائه اليمين الدستورية أمام حشود في ميدان التحرير. واستبق أول رئيس مدني منتخب، بهذه الخطوة المجلس العسكري، والتف على الإعلان الدستوري المكمل الذي أصدره لتقليص صلاحياته بالاحتماء بشرعية الثورة، وتأكيده أن الشعب هو مصدر السلطات. وعزز بتلك الخطوات المفاجئة للمراقبين صلاحياته وسلطته في مواجهة المجلس الأعلى للقوات المسلحة.
ورغم أن هذه الخطوة تعد خطوة رمزية، إلا أنها تؤذن بميلاد مرحلة جديدة في تاريخ مصر، خصوصاُ أنها تأتي ضمن سلسلة من الخطوات المحسوبة في إطار الصراع على السلطة السياسية بين الإخوان والعسكر، ومدعومة بضغوط دولية، أمريكية وأوروبية، على المجلس العسكري لإلغاء الإعلان الدستوري المكمل وحل مجلس الشعب المنتخب وإعطاء الرئيس المنتخب صلاحياته كاملة.
فالرئيس المنتخب أتبع هذه الخطوة بأداء اليمين مرة ثالثة أمام القوى السياسية في اجتماعه معها في قاعة الاحتفالات الكبرى بجامعة القاهرة، بعد أدائه اليمين، رسمياً، أمام الجمعية العمومية للمحكمة الدستورية. وسيكون من بين هذه القوى السياسية أعضاء مجلس الشعب الذي تم حله بموجب حكم صادر عن المحكمة ذاتها، ليؤكد أن مجلس الشعب قائم بحكم الأمر الواقع وعدم اعترافه بقرار الحل كإجراء غير دستوري وفي تحد واضح للمجلس العسكري الذي أقدم على حل مجلس الشعب.
وسواء تمت هذه الخطوات بالاتفاق المجلس العسكري أو بالتنسيق معه، أو بدون اتفاق أو تنسيق، فمن المؤكد أنه سيكون لها آثار بعيدة المدى على مستقبل الصراع السياسي في مصر لسنوات قادمة. فبهذه الخطوات المدروسة جيداً، يثبت الإخوان المسلمون تفوقهم من حيث المهارة السياسية على منافسيهم في السلطة وفي المعارضة على حد سواء، ويحتلون موقعاً مركزياً بالإمساك بدفة التفاعلات السياسية في مصر، داخلياً وخارجياً.
فعلى الرغم من الاختلال الواضح في ميزان القوة بين جماعة الإخوان المسلمين وبين المجلس الأعلى للقوات المسلحة، إلا أن المخططين الإستراتيجيين في جماعة الإخوان المسلمين، نجحوا إلى الآن في استغلال مواردهم المحدودة بشكل أفضل وحققوا مكاسب متتالية في مواجهة المجلس العسكري، وكذلك في مواجهة خصومهم السياسيين في المعارضة، واستطاعوا أن يحققوا سلسلة من المكاسب الصغيرة والبناء عليها لكسب أرض جديدة.
وسعى إستراتيجيو الجماعة إلى توظيف كل موقف لتعزيز موقعهم على الساحة السياسية المصرية وعلى الخريطة الإقليمية والدولية. وتمكنوا من استغلال الضغوط الأمريكية والدولية على المجلس العسكري لانتزاع منصب الرئيس، دون أن يقدموا تنازلات تذكر في مسألة الإعلان الدستوري المكمل، أو حل مجلس الشعب أو صلاحيات الرئيس المنتخب، واحتفظوا لأنفسهم بهامش مناورة واسع على الساحتين الداخلية والدولية.
وعزز البيان الذي أصدره وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في اجتماعهم في بروكسل يوم 25 يونيو، أي بعد يوم من إعلان فوز مرسي رسميا، موقف الرئيس المنتخب، داخليا ودولياً. فوزراء خارجية الاتحاد الأوروبي أكدوا في بيانهم دعم الاتحاد الأوروبي الكامل لانتقال ديمقراطي للسلطة في مصر وأبدوا القلق من حل البرلمان والإعلان الدستوري المكمل وما وصفوه بعرقلة عملية نقل السلطة وتسليمها للمدنيين. وأكدوا استعداد الاتحاد الأوروبي لتقديم المساعدة في إطار شراكة وثيقة مع السلطات المصرية الديمقراطية الجديدة وبالتنسيق مع المجتمع الدولي.
وبهذه الخطوات، الداخلية والخارجية، زاد الإخوان المسلمون من التكلفة التي سيتكبدها المجلس العسكري وستتكبدها البلاد جراء أي صدام محتمل قد يقدم عليه المجلس العسكري لتقليص سلطتهم وتحجيم نفوذهم بزيادة قدرتهم على تعبئة قوى معادية للمجلس العسكري داخلياً وخارجياً. ويستغلون هذا الوضع للمضي قدماً لتعزيز قبضتهم على كل ما يستطيعون انتزاعه من أدوات للسلطة والنفوذ ليس في مصر فقط، وإنما على الصعيد الدولي.
ونجح الإخوان المسلمون إلى الآن في أمرين أساسيين على المستوى الداخلي: الأول، الاستفادة من التناقضات فيما بين القوى التي فجرت ثورة 25 يناير 2011 وبين المجلس العسكري الذي تولى إدارة شؤون البلاد من ناحية، والتناقضات فيما بين هذه القوى من ناحية ثانية ليؤمنوا لأنفسهم وضعاً فريداً بالتحالف تارة مع المجلس العسكري وتارة أخرى مع من يقبل التعامل معهم من قوى الثورة والقوى السياسية.
والأمر الثاني، استفاد الإخوان المسلمون من خبراتهم التي تراكمت على مدى عقود، سواء في العمل التنظيمي أو التواصل مع القواعد الشعبية والطبقات الفقيرة وتغلغلهم عبر شبكة واسعة من المنظمات الأهلية التقليدية، ذات القاعدة الدينية، وتوظيفهم شبكة واسعة من المنابر الدينية في تحدي الخطاب الديني الرسمي المستسلم لنظام حكم مستبد وفاسد، وتقديم خطاب بديل. وأتاح لهم ظهور تيارات دينية أكثر تشدداً الفرصة لأن ينتقلوا إلى موقع الوسط السياسي الذي يبدو أكثر اعتدالاً.
وعلى المستوى الخارجي، استطاع الإخوان المسلمون أن يعلنوا مواقف سياسية مطمئنة للقوى الدولية التي لديها مصالح في المنطقة على نحو لم تجرؤ على فعله القوى السياسية المدنية والليبرالية التي كانت تخشى أن تتهم بالخيانة والتفريط في الحقوق الوطنية إذا أقدمت على هذه الخطوات. وتسير جماعة الإخوان المسلمين وقياداتها المؤثرة بحذر شديد في هذا الصدد بحيث ترضي القوى الدولية وتعطيهم ما يطمئنها وتحتفظ في الوقت نفسه بخطاب متشدد يرضي قواعدها ولا يثير غضب الجماعات القومية.
السؤال الآن، هل ستكون هذه النقاط التي حققتها جماعة الإخوان المسلمين وحزبها السياسي، حزب الحرية والعدالة، والرئيس الذي دعموه في صالح التطور الديمقراطي في مصر؟
الإجابة المؤكدة إلى الآن هي قطعاً، بالنفي، وذلك لعدد من الأسباب.
أولاً، إن الديمقراطية تقوم بالأساس على توازن للقوى، لا مجال فيه للوعود وللنوايا الحسنة. والنجاح الذي حققه الإخوان المسلمون منذ الإطاحة بالرئيس حسني مبارك في 11 فبراير 2011 وإلى الآن، كان على حساب القوى المدنية التقليدية والقوى تبلورت بعد الثورة، أو التي كان من الممكن أن تتبلور، الأمر الذي وضع المجتمع مع انتخابات الرئاسة أمام اختيار محدود، لا يرضي طموحات كثيرين ممن شاركوا في الثورة.
والحق أن الإخوان، مثلهم مثل المجلس العسكري، كانوا ينظرون بقلق وريبة للقوى التي برزت مع ثورة 25 يناير، وفي إطار الكفاح السياسي المدني، الذي مهد لها منذ عام 2003. فطوال تلك السنوات كان الإخوان يعقدون الصفقات مع نظام مبارك للحصول على مكاسب تعزز مواقعهم كشركاء للسلطة، وكانت السلطة تحتاجهم في مواجهة ضغوط دولية عززتها سياسات إدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الأولى، التي انتهجت خطاً هجومياُ في قضايا الديمقراطية والإصلاح السياسي، خصوصاً بعد هجمات 11 سبتمبر 2001.
فالثورة المصرية، هي في جوهرها ثورة مدنية ديمقراطية، وتنطوي على من إمكانيات هائلة لانتقال النظام السياسي المصري ليصبح نظاماً مدنياً ديمقراطياً، شكلت تهديداً مشتركاً لكل من العسكر والإخوان. وهذا هو الأساس الذي قام عليه التحالف الضمني والصريح بين الطرفين، رغم صراعهما المرير والتاريخي على السلطة. وأدى سعي الطرفين لتقويض الثورة المصرية والقوى التي تقف وراءها إلى خلخلة التوازن الذي كان من الممكن أن يتأسس على بروز قوى سياسية جديدة تفرزها الثورة.
ولم يكتف تحالف الإخوان والعسكر على الإخلال بميزان القوى السياسية، وإنما عمل الطرفان على رسم خارطة للطريق مدعومة بجداول زمنية وعبر خطوات مبرمجة لإعادة صياغة المسرح السياسي بما يؤمن لهما مواقع في مواجهة قوى الثورة، من خلال الاستفتاء على التعديلات الدستورية ووضع الإعلان الدستوري الأول في 30 مارس والإصرار على إجراء انتخابات تشريعية قبل وضع دستور للبلاد ووضع آلية غريبة ومعكوسة لوضع الدستور.
واستغل المجلس العسكري التناقضات بين جماعة الإخوان المسلمين والقوى السياسية التقليدية والناشئة واستقطب من استطاع استقطابه من قيادات الثورة الشابة. يضاف إلى ذلك رفض الجماعة الحديث عن أي مبادئ حاكمة لقواعد اللعبة السياسية يمكن أن تكبلها وتلزمها بالعمل على تطوير نظام سياسي ديمقراطي قائم على تأكيد التعددية السياسية والثقافية والاجتماعية الحقيقية وإصرارها على الإبقاء على التركيبة التي تعطيها وضعاً مميزاً
ثانياً، تتبنى جماعة الإخوان المسلمين وحزبها السياسي موقفاً غامضاً وملتبساً من مسألة الديمقراطية، وموقفاً متوجساٌ ومعارضاً للتطور الديمقراطي في مصر. فالمبادئ التي تقوم عليها جماعة الإخوان المسلمين وحزبها السياسي وفي مقدمتها مبدأ السمع والطاعة، وافتقار الجماعة للآليات الديمقراطية، علاوة على انغلاقها الأيديولوجي والتنظيمي الذي يجعلها أقرب شبها بالطائفة والعشيرة، أكثر من كونها من تنظيم سياسي حديث.
والواقع أن الجماعة في التجربة البرلمانية القصيرة أظهرت حرصاً شديداً على الاحتفاظ بكل هياكل الاستبداد السياسي الموروث من النظام الذي ثار الشعب لإسقاطه وتدعيم هذه الهياكل ومنحها الشرعية، على نحو جعل كثير من قوى الثورة ترى في الجماعة وحزبها صورة أخرى من صور الحزب الوطني الديمقراطي الذي أطيح به. ولم تكتف الجماعة بذلك، وإنما أضافت أيضاً عدداً من القوانين والتشريعات المقيدة، على المستويين السياسي والاجتماعي.
كذلك، لم تتخذ الجماعة إلى الآن موقفاً واضحاُ من الآراء التي تصدر عن التيارات السلفية والتيارات الإسلامية الأكثر تشدداً وما تنطوي عليه من تهديدات للحريات الشخصية والاجتماعية والعامة، بل اتخذ بعض أعضاءها مواقف مشجعة لمثل هذه التوجهات وتبريرها على أساس موافقتها للشريعة الإسلامية. وتحرص الجماعة على وجود هذه الجماعات لتتولى عنها المهام التي تتناقض مع صورتها كجماعة أكثر اعتدالاً وتسامحاً.
ثالثاً، تسعى الجماعة إلى تكريس الثقافة السياسية التقليدية المحافظة وترسيخها وإضفاء طابع ديني عليها، مما يمكنها من محاربة أي مشاريع سياسية تنويرية منفتحة، ومحاربة دعاة هذه التوجهات حيث تشجع اتهامهم بأنهم عملاء للقوى الغربية التي تسعى إلى غزو المجتمعات الإسلامية ثقافياً ورفض الأفكار والقيم التي تتأسس عليها الديمقراطية وفي مقدمتها قيم الحداثة والنهضة باعتبارها قيم غربية وافدة واستبدالها بقيم غامضة مستمدة من التراث لتفريغ الديمقراطية من مضمونها الحديث.
رابعاً، رغم عدول الرئيس المنتخب محمد مرسي عن كثير من العبارات التي وردت في خطابه الأول والتي كانت مثار انتقادات، إلا أن خطابه الأخيرة لم يخل من إشارات شعبوية واضحة وتلويح باستخدام "الثوار" في مواجهة مؤسسات الجهاز التنفيذي الذي سيرأسه إذا أبدى هذا الجهاز مناوئة له، في تصريح محسوب يسعى من خلاله إلى تطويع جهاز الدولة الذي لا يتوقع منه تعاوناً على الأقل نظراٌ لتقاليده العتيقة والمتوارثة.
خامساً، إن الإخوان ورئيسهم المنتخب إنما يفعلون ذلك في إطار صراعهم مع المجلس العسكري على السلطة السياسية وهم الآن في موقع هجومي ويكثفون الضغوط على المجلس العسكري أملاً في إزاحته وانتزاع السلطة بشكل كامل. ورغم علمهم التام بنقاط ضعفهم وجسامة المهمة إلا أن مهارتهم السياسية تعطي لهم إحساساً بأنهم سيديرون الأمور بشكل أفضل من المجلس العسكري. ورغم حديثهم المتودد للثوار والقوى السياسية، إلا أنهم سرعان ما تراجعوا عن وعود قطعوها بعد الجولة الأولى لانتخابات الرئاسة.
سادساً، تمكن الإخوان من خلال إدارتهم معركة الجولة الثانية لانتخابات الرئاسة في ربط الفريق أحمد شفيق الذي ينافس مرشحهم بالمجلس العسكري بتصويره على أنه مرشح المجلس العسكري وعملوا على كسب تأييد قوى الثورة والمعارضة في صف مرشحهم أو تحييدهم عبر المقاطعة أو إفساد الصوت وإبطاله ليكون فوزهم على شفيق انتصار أيضاً على المجلس العسكري. ونددوا بالإعلان الدستوري المكمل وبحل مجلس الشعب باعتبارهما "انقلاب ناعم" بينما يعدون هم لانقلاب حقيقي وخشن على المجلس العسكري بعد أن طرحوا أنفسهم كقيادة لثورة لم يحققوها.
وبإعلان نتيجة الانتخابات، على النحو الذي جاء موافقاً للنتائج الأولية التي أعلنها الإخوان في المؤتمر الصحفي الذي أعلنه مرشحهم بعد ظهور النتائج الأولية للفرز في اللجان الفرعية من خلال عمليات حملته الانتخابية، أصبح هامش المناورة السياسية محدوداً أمام المجلس العسكري، ولم يعد في مقدوره الاستعانة بالقوى المدنية التي خرجت لتدعيمه في مواجهة الضغوط الخارجية وتهديدات الإخوان. وسواء أصر على إبقاء الإعلان الدستوري المكمل أم تراجع عنه تقلصت سيطرته على إدارة العملية السياسية في مصر في مواجهة الإخوان، وسيتحمل تاريخياً مسؤولية تسليم البلاد لقوة سياسية من المرجح أن تؤخر التطور السياسي لسنوات إن لم يكن لعقود.
وستتحمل القوى التي ضغطت على المجلس العسكري المسؤولية أيضا وستدفع ثمناً فادحاً. فوصول مرشح ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين إلى رئاسة مصر، يؤذن بتحول جذري في موازين القوى السياسية، ليس فقط على المستوى الوطني وإنما يفتح المجال أيضاً لتحولات جذرية على المستوى الإقليمي. إن هذه التحولات ستكون عنيفة على الأرجح، ومن المؤكد أن الشعوب هي التي ستسدد فاتورتها الباهظة.
فحرمان الإخوان المسلمين من الميزة النسبية التي بأياديهم الآن، وهي المهارة السياسية والقوة الرمزية والناعمة والشرعية الانتخابية والثورية سيفتح الباب لصراع دام يستمر لسنوات من غير المؤكد أن تتمكن القوة الصلبة للجيش أن تحسمه في ظل بيئة شديدة الغموض ويكثر فيها اللاعبون على صعد مختلفة. كذلك، فإن الاستسلام لإرادتهم ليس وصفة مضمونة لتحقيق لاستقرار مهما تكن الضمانات ورسائل الطمأنة التي يقدمونها للقوى الداخلية والدولية. وقد تحدث تطورات تجعل هذه الضمانات لا قيمة لها.
لقد وضع المجلس العسكري في إطار صراعه مع القوى المدنية نفسه في مأزق يصعب الفكاك منه، وقلص من هامش المناورة المتاح لها وضيع على البلاد، وللمرة الثانية، فرصة لانتقال ديمقراطي سلمي، وساهم في تسليم البلاد لقوة التزامها بالديمقراطية أقل وضوحاً من التزامها بأهدافها المتعارضة مع مبادئ الديمقراطية وروحها وقيمها وتتبني مشاريع تنطوي على تهديد كبير للسلام سواء على المستوى الوطني أو الإقليمي أو العالمي.