مصر الكبرى
لا تستعجلوا الهجوم على مرسي
لا أفهم سبب اللغط حول ما كتبته متفائلا ومهنئا بفوز محمد مرسي في انتخابات الرئاسة المصرية. فالتهنئة ليست لذاته، أي لأنه فاز وشفيق خسر، بل لأنه صار رئيسا بأغلبية أصوات المصريين. وعلينا أن نستفيق وندرك أن في مصر نظاما جديدا، ومن مصلحتنا جميعا أن ينجح المصريون في إخراج البلاد من النفق الذي يمكن أن تتيه فيه لسنوات نتيجة الصراع على الحكم. خير خلافة لحكم مبارك نظام يتداول المصريون فيه السلطة عبر الانتخابات، بعد ستين عاما من حكم العسكر، حتى استهان الرئيس المخلوع مبارك بخلافته ونجم عنه صراع بين ابنه والمؤسسة العسكرية والشارع.
بعد إسقاط مبارك، كانت هناك ثلاثة خيارات. للمجلس العسكري الاستمرار في حكم البلاد وفرض الأحكام العرفية، لكن إلى متى؟ الشارع سيقاوم وستدخل البلاد في اضطراب دائم. وخيار الحكم الجماعي، مثل مجلس ائتلافي انتقالي لسنتين، كما طرحه الدكتور البرادعي، وهذا سيؤدي إلى شد وجذب وصراع لن يقل سوءا عن سابقه. وبقي خيار وحيد، اللجوء للشعب المصري فينصب من يريد ضمن نظام تداول السلطة. هذا الخيار يضمن استقرار النظام في مصر لعقود مقبلة، وبالتالي استقرار المنطقة، لأن بقاء مصر مضطربة فيه خطر على الجميع لا المصريين فقط. الفوضى من صالح الدول الحمراء مثل إيران أو تنظيم مثل «القاعدة».
الأغلبية اختارت مرسي، وجاءت أغلبية كافية له للفوز برئاسة البلاد، لكنها ليست أغلبية ساحقة، وهذا يعني أن النظام المصري الجديد نجح في الحسم، ويمكن أن يستمر تنافسيا دون أن توجد فيه قوة واحدة مهيمنة.
إن دعم الرئيس المنتخب فيه اعتراف بالنظام الذي جاء به، شرعيته من شرعية النظام الذي يلزم الرئيس بالأطر الدستورية. وهي نفس الأطر، مدة الرئاسة وصلاحياتها، التي يمكن الاحتكام إليها غدا لو أخفق في احترام التزاماته. أنا لا أتصور أن أي رئيس، بما في ذلك مرسي، يستطيع أن يخالف التوجه المصري العام، عدا أن يتجرأ على الخروج على الشرعية التي جاءت به رئيسا. وهنا نتطلع لدور إيجابي للمؤسسة العسكرية، بحيث لا تتدخل في الحكم لكنها تحمي النظام وفق الدستور.
هناك حالة للاعتراض على فوز مرسي برئاسة مصر، طبعا لمن ليس له موقف مسبق رافض للنظام الجديد فيكون منسجما مع موقفه السياسي، أن يجزم بأن حزب الإخوان فرض النتيجة بالقوة على المؤسستين السياسية والعسكرية، وبالتالي يعتبر الفوز استيلاء على الحكم ويعامله كذلك. وهذا الافتراض غير صحيح وفق كل معطيات الحدث الانتخابي.
أما رفض النتيجة لأن مرسي فاز أو لأن شفيق خسر فغير منطقي، إما أن تقبل بالنظام كله وإما أن ترفضه كله. ولا يستطيع المرء، بما في ذلك المتفرجون أمثالنا من كتاب الرأي، أن يبني موقفه على النتيجة، وهو الذي أيد قواعد اللعبة. وقبل ذلك، لا يعقل أن ندعو هذه الجماعات للانخراط في النظام السياسي، وبشروطه، وعندما يكسبون المنافسة نرفضهم، فقط لأنهم ليسوا الحزب المفضل!
ثم إن محاكمتهم على النوايا من اليوم الأول، وقبل أن تصدر منهم خطوات عدائية تبني علاقة سلبية في وقت يفترض أن ينتظر المتشككون سياسة الحكومة الجديدة. ويمكنني أن أضع فرضيات ثلاث للكيفية التي قد يدير بأحدها الرئيس مرسي علاقاته الإقليمية. الأولى، أنه سيسير في نفس خط مصر المعتدل، وحليف طول العهد للخليج باستثناء زمن نزاع الأقطاب مع عبد الناصر، وعاد إلى السياسة الإيجابية في آخر سنتين من عهده. والفرضية الثانية، أن الرئيس الجديد سيلتزم بخطه الإخواني لزمن ما قبل الثورات، فيعادي دول «الاعتدال». سياسة صعبة التنفيذ لأن إيران محاصرة وضعيفة، وستكون عبئا على من يتحالف معها. والغرب سيعادي من سيتعامل معها، حتى الصين قلصت تعاملاتها، بما فيها التجارية. والأسد في دمشق يترنح، وقد لا يرى تباشير السنة المقبلة. فهل يعقل أن تسبح السياسة «المرسية» ضد التيار خاصة أن عداء العرب لنظام إيران وحزب الله والأسد في قمة درجاته اليوم؟ هذه سياسة انتحارية. الفرضية الأخيرة، أن تلعب مصر الإخوانية دور المخرب الإقليمي دون التورط في معاداة الغرب، مثل التحالف مع الجماعات الإسلامية المعارضة. تستطيع فعل ذلك إنما ما الفائدة التي تجنيها مقارنة بالخسائر المحتملة؟ عمليا لا يوجد.
الإخوان جاءوا في زمن إقليمي مختلف، ويحكمون دولة كبرى مثقلة بالمشاكل. ومثل معظم الأحزاب الآيديولوجية، سيواجهون واقعا صعبا في إدارة مصر. أولها مشكلة دعم سبعين مليون رغيف في اليوم، التي لا يمكن حلها بالتنظير السياسي، كما كانوا يفعلون وهم في مقاعد المعارضة. ثم سيكتشفون أن أكثر الدول نفعا لمصر هي الدول الخليجية التي كانوا يناصبونها العداء إبان حكم مبارك، وأكثرها إضرارا بمصالح مصر تلك التي كانت تساندهم نكاية في نظام مبارك. هموم مرسي اليوم تختلف عن همه عندما كان ضمن قيادات الإخوان، فهل سيغامر بتقديم عواطفه، إن كانت ميالة لإيران مثلا، على مصالحه كرئيس دولة مطالب بالنجاح؟ ربما، لكن ذلك مستبعد بدليل أنه سارع إلى نفي الحديث المنسوب إليه في وكالة «فارس» الإيرانية.
الشأن الداخلي هو المساحة الأوسع التي يستطيع أن يلعب فيها، وسيصطدم بالقوى المدنية التي ستتحول لمعارضته بشراسة. ولا أعتقد أن الخليجيين يبالون كثيرا بمسائل الحريات والحقوق المدنية عدا عن أنه شأن داخلي يخص المصريين. لهذا ناموا على وسائد من حرير فمصر أكبر من أي رئيس وحزب.