كتاب 11

01:38 مساءً EET

عقدة الذنب

يولد بعضنا ويعيش عمره كله وهو في صراع مع ذاته، يعاني تأنيب الضمير الذي لا ينتهي، فلا تهدأ النفس ولا تستريح، تشعر دائماً بعقدة «ما»، يوماً تتخذ صورة المخطئة، ويوماً المقصرة، ويوماً تتخذ صورة تطالب فيها بالمثالية المطلقة، وتستمر الحال في المتاهة نفسها من دون التعرّف على السبب والمسبب، إذ يشعرون بأنهم دائمين مقصرون في حق أنفسهم أو في حق الآخرين، لكن من دون أن يفعلوا شيئاً، فقط العيش في دوامة التأنيب!

جميل أن يكون الفرد واعياً بما يقدم عليه، مستبصراً في نفسه والآخرين، لا يرضى ظلمها ولا ظلم غيرها، لكن هؤلاء يشعرون بتقصير وعدم مسامحة النفس، دخولهم كل يوم في صراع يهلك الذات ويسلبها الإرادة ويجعلها أسيرة للوهم، فلا هي تقدمت ولا هي أنجزت.

من منا بلا خطيئة أو ذنب أو قصور، خلق الإنسان في عالم مليء بالتناقضات والتحديات، لا لكي يقع فريسة لها، بل من خلال هذه التناقضات يعرف حقيقة الأشياء ويتعلم منها، يعرف من خلالها الخطأ والصواب، التقصير وأداء الواجب، ويعرف حقيقة أن ادعاء المثالية لا ينطبق على البشرية، وأنه لا يوجد على الأرض الكمال المطلق، لأن الكمال المطلق لله وحده.

ما لا يدركه الفرد أن لحظات التأنيب وملامة النفس مفيدة في وقتها ومدتها المعقولة، لكي يستوعب ما هو دوره الفعلي في الحياة، يتعلم ويعلم، لكن إذا استمرت مدة طويلة من دون تغير تصحيح فإنه يعد انتحاراً بطيئاً مع سبق الإصرار والترصد.

على الفرد أن يبدأ التغير لحظة استيعابه الخطأ أو القصور، إذ تكون رؤيته اتسعت جيداً في ما يجب عمله، وأين هذا القصور في حياته الشخصية أو الأسرية أو المهنية أو الاجتماعية، وأن يبدأ أولاً في تغيّر فكره واستيعابه بمنطقية من دون ظلم الذات أو جلدها، يبدأ العمل الفعلي في تطبيق هذه التغيرات وتصحيح المفاهيم المغلوطة، وهنا يدخل مرحلة الوعي والإدراك بدل الوقوع في براثن النفس اللوامة، أن يغير ويعمل ويجتهد ويدرك أن في الحياة دروساً وعبراً، وأن كل شيء يمر فيه ليس صدفة، يدرك أنها دروس في الطريق تعلمه وتجعله ناضجاً وقوياً وواعياً، كولادات جديدة يتعلم من مخاضها وآلامها ووجعها، ويدرك أنها لا تدوم، تمكث قليلاً ثم تذهب بعد أن تصقل شخصيته بقوة الحضور والوعي في فهم الحياة أكثر، ويدرك أن الصراع الطويل مع الذات يدمرها، وأنه هو الوحيد الخاسر في عدم فتح الأبواب أمامه، إذ إنها لن تفتح إلا بعد المصالحة مع الذات وتقديرها واحترامها.

هناك من يمتلك الشهادات العليا والمناصب الجيدة، لكنه من الداخل أسير هذا الوهم في تأنيب النفس أو محاولة الوصول إلى أعلى درجات المثالية الصرفة، وهذا ضرب من المستحيل، لأن الإنسان معرض للخطاء، المهم هو كيفية العمل وتصحيح ما وقع فيه، بدل الصخب والجدل أو التغافل والتجاهل، لأن التغافل هو من يصنع هذا التأنيب، البعض يعيش دوامة عقدة الذنب، حيلاً دفاعية يحاول فيها تخفيف الألم أو القصور، لكنه لا يتحرك ولا يتغير، يظل قابعاً مكانه، يندب الحظ والظروف والنفس، تأنيب الضمير هنا بسبب عدم مواجهة هذا القصور أو تصحيح الخطاء.

مهم جداً الوقوف على الأسباب الحقيقية خلف هذا الشعور وطرح العديد من الأسئلة: لم أنا أعاني من الشعور التأنيب؟ في ماذا أخطأت أو قصرت؟ كيف أعالج هذه السلبيات؟ ما هي الخطوات الأولى لكي أتجاوزها؟ وكيف سيؤثر هذا فيّ إذا لم أتغير؟ وإذا تغيرت ماذا سيضيف علي حياتي؟

للأسف «تبرمج» المجتمع على نمط الشعور بالتقصير والملامة، سواء أكان حقيقياً أم وهماً، ما صنع له فجوة عميقة بين قبول الذات والتصالح معها، لذا ضرورة تصحيح هذا النمط من التفكير وإبداله إلى نمط تفكير إيجابي في كيفية تصحيح الأخطاء والإقدام على التغير والسعي للأفضل بدل الجلوس للبكاء والتباكي.

التعليقات