كتاب 11

03:02 مساءً EET

هوية الإنسان المفقودة

لا يزال الإنسان يبحث ويحاول سد تلك الفجوة بينه والعالم الذي يعيش فيه.

الهوية تعني الأمان والاستقرار النفسي والتصالح مع الذات والتعرف على عمقها ودورها في الحياة، الهوية تعني «أنا من أكون»، وهذا يتم عندما يتجرد الإنسان من الشكليات والمظاهر والصور والماديات والأطر ويكون هو نفسه كما «هو»، مؤمناً في ذاته، بقوته وضعفه، واعياً أنه كائن روحي في جسد مادي، يعيش بين متطلبات الاثنين، ولكي يستطيع أن يعيش لا بد أن يوازن بين سمو الروح وأهواء النفس.

سمو الروح يتطلب الصدق معها من دون أُطر وصور وأشكال معينة اخترعها الإنسان لمعرفة ماهيته تحديداً، لمعرفة من هو، لكي يصل إلى هويته الحقيقية، لكنه بَعُد كثيراً، نعم استطاع عمارة الأرض، وجمّل وصنع ووضع، لكنه في الحقيقة لم يوازن بين متطلبات الروح والنفس، ففقد هويته الأصلية أو دوره الحقيقي في هذه الأرض، وأصبح يحاول أن يسد الفجوة في إثبات هويته، أو إثبات من يكون في اقتناء كل الشكليات من مناصب وماديات، عنف وغضب، ضعف وانهزام، شهادات واختراعات، والشراهة في الأطعمة والمشتريات والمقتنيات، والتفاخر بما يمتلكه حتى أصبح استهلاكياً من الدرجة الأولى. كل ما ذكرت ضرورة من متطلبات الحياة لكي يعيش الإنسان براحة، لكن «فقدان التوازن» والميل كل الميل إلى الجانب المادي أو الجسدي أو أهواء النفس وما ابتليت به قلوب البشر من الكراهية والغضب والانتقام وردود الفعل السريعة، جعلت منه إنساناً غريباً ومشتتاً، يغطي هذا الضعف بهذه الأشكال والأطر والمظاهر.

هناك جانب مهم جداً لصنع «التوازن»، هو إحياء الجانب الروحي، ونقصد به سمو النفس من خلال الصدق والعدل والمحبة الخالصة من دون اشتراط، وتقديم المساعدة في أقل شيء، وهو عدم الاجترار والتماهي مع الأشكال المزيفة للإنسان، أولها الأنانية والتعلّق وحب التملك وسوء الظن والبخل المشاعري، مما جعل مشاعر أفراد اليوم جافة وقاسية لا تبالي بالآخرين، وهذا للأسف جعل هناك انفصالاً مع الذات، ثم انفصالاً مع العالم الخارجي، وهو ما جعل الإنسان يفتقد هويته الأصلية «من يكون»، وأصبح يبحث في الخارج ما يغطي هذا الضعف.

الإنسان كائن من روح ونفس وجسد، كل منها يتطلب شيئاً ما، ولكي يكون حقيقة كما هو عليه أن يتوازن بين هذه الثلاثية، التطرّف في جانب يؤثر في الجانب الآخر، فنحن نعيش حياة مادية تتطلب العمل والجهد وتحريك العقل وتنظيم التفكير، ومراعاة صحة الجسد من خلال الفكر الإيجابي، إذ ثبت أن ضعف الجسد وأمراضه منبعها نفسي وفكري، وسمو الروح يتطلب الصدق والعدل والحكمة والتروي والحب والمحبة، من خلال ذلك نستطيع أن نتواصل مع أنفسنا أولاً ثم مع كل أفراد هذه الأرض، ونبتعد عن الخوف المؤصل في الإنسان الذي جعل منه «آلة» عديمة الوعي والإدراك، تحركه الماديات بأشكالها المتعددة، وأبعدته عن حقيقته الروحية السامية.

عندما نتعلم ذلك يصبح سهلاً على الإنسان أن يتعامل مع المحيط الخارجي من أفراد أو أعمال أو حتى الأشكال والمظاهر، لكن بوعي وبصيرة في عدم التماهي مع الشكل فقط، هنا يستطيع التقرب والتعرف على المضمون والعمق الإنساني والفطرة السليمة، تهدأ الروح والنفس ويستقر الجسد، وهذا ما يرمرم الفجوة والغربة الداخلية، ويصبح توأم هويته الأصلية لا يبتعد عنها ولا تغريه ضوضاء الحياة.

التعليقات