أفضل المقالات في الصحف العربية
.. ومن يردع الحكومة الأميركية؟
أين تنتهي حدود حقوق المواطن في الخصوصية، ويبدأ حق السلطات في جمع المعلومات الشخصية عن الأفراد من دون علمهم أو إذنهم، وبالتلصص على اتصالاتهم ومراسلاتهم الإلكترونية؟ أين ينتهي حق المواطن في المعرفة، ويبدأ حق الدولة في السرية؟ وهل تعني دواعي الأمن التفريط في مبدأ احترام الخصوصية، وإعطاء السلطات الحق في حجب المعلومات من دون امتثال لمبدأ الشفافية والمحاسبة؟
هذه الأسئلة وغيرها أثارت نقاشا واسعا بعد الحكم بإدانة الجندي الأميركي برادلي مانينغ بطل تسريبات وثائق «ويكيليكس»، التي أحدثت ضجة واسعة، وأحرجت الإدارة الأميركية، وأسهمت في أجواء الشحن التي أطاحت بزعماء في أحداث الربيع العربي. فالمحكمة العسكرية الأميركية التي مثل أمامها مانينغ قضت الأسبوع الماضي بإدانته في 20 تهمة، منها ست تهم تتعلق بقوانين التجسس، وأخرى تتنوع ما بين السرقة والاحتيال، بينما برأته من تهمة مساعدة العدو التي تحمل عقوبة أشد، لكن حتى مع تبرئته في هذه التهمة، فإنه يواجه حكما بالسجن قد تصل مدته إلى أكثر من 130 عاما.
هل تستحق «الجريمة» هذا العقاب الرادع لرجل في مقتبل العمر (25 عاما)، كشف عن معلومات بوازع الضمير، وليس من أجل الحصول على مال، لأنه قدمها لموقع «ويكيليكس» من دون مقابل مادي، بل لأنه أراد، حسبما أفاد به في أقواله، «فتح نقاش حول السياسة الخارجية الأميركية»؟
الواضح أن الهدف من العقوبة القاسية المتوقعة هو ردع آخرين ممن قد تسول لهم أنفسهم كشف أسرار حكومية أو استخباراتية، في وقت بدأت فيه الحكومة الأميركية تواجه ارتفاعا في عدد المبلغين الذين يقولون إنهم يكشفون معلومات لوسائل الإعلام بغرض توعية المواطنين، والتنبيه على تجاوزات السلطات الحكومية وانتهاكها للقوانين في بعض الحالات، وتعديها على مبادئ احترام الخصوصية والحقوق المدنية، وتجاوزها لمبدأ الشفافية والمحاسبة.
فإضافة إلى مانينغ، تريد إدارة أوباما محاكمة محلل استخباراتي آخر، هو إدوارد سنودن، الذي هرب إلى هونغ كونغ ومنها إلى روسيا، حيث منح اللجوء السياسي، بعد أن أحرج الحكومة الأميركية بتسريبات نشرت في صحيفة الـ«غارديان» البريطانية وتناقلتها وسائل الإعلام حول العالم، كاشفة بها عن برنامج المراقبة الخاص بوكالة الأمن القومي الأميركي والاستخبارات البريطانية الذي تطلع من خلاله على المكالمات الهاتفية، والبريد الإلكتروني الشخصي، وسجلات التصفح الإنترنتي للملايين من الناس. وهناك آخرون سبق محاكمتهم وفصلهم من أعمالهم لقيامهم بتسريب معلومات حكومية، قالوا إنهم أرادوا بها كشف خرق الحكومة للقانون، أو إساءة استخدام سلطاتها.
الواقع أنه في عصر الإنترنت وثورة المعلومات تواجه الحكومات تحديا هائلا في مسألة حجب المعلومات، لأن أي موظف يستطيع سحب كثير من الملفات من الكومبيوتر، وتسريبها في قرص بحجم الأصبع، خلافا لما كان يحدث في الماضي؛ عندما يضطر من يريد تسريب معلومات إلى تصوير الوثائق ونسخ صفحات كثيرة، مما يزيد من فرص كشفه ويقلل من حجم وكم المعلومات التي يستطيع تسريبها. كذلك، فإن هناك ثقافة جديدة في مسألة الشفافية وتداول المعلومات تنمو مع نمو الإنترنت وانتشار مواقع التواصل ووسائل الاتصال، وتظهر أكثر في جيل جديد تعود على حرية المعلومات وسهولة الوصول إليها في الفضاء الإنترنتي، فتربت لديه قيم مختلفة في مسألة كشف المستور والتسابق لنقل كل معلومة أو حتى شائعة، وتلاشت الحدود في مسألة المعلومات ذات الطابع السري.
الدول تحتاج بلا شك إلى قدر من السرية في بعض تعاملاتها، ولا تستطيع كشف كل معلوماتها السرية أمام حتى أصدقائها، ناهيك عن أعدائها. وفي عصر تبرز فيه مشكلة الإرهاب وتشعباته لتشكل تهديدا خطيرا للأمن، فإن الأجهزة الأمنية تحتاج إلى اختراق عالم الإرهابيين السري لحماية المواطنين والدولة بكل أجهزتها ومرافقها من غدر الإرهاب. غالبية الناس تدرك هذا الأمر وتقدره، لكن في المقابل فإن الحكومات تحتاج إلى مراعاة حدود سلطاتها وصلاحياتها بحيث لا تبالغ في استخدام تهديد الإرهاب للتعدي على خصوصيات الأبرياء، ولا تغالي في استخدام السرية على حساب الشفافية المطلوبة كمبدأ عام لتمليك المواطنين الحقائق، ولتسهيل مبدأ المحاسبة الذي يمنع المسؤولين من التجاوزات.
ليس كل ما كشفه مانينغ أو سنودن كان مضرا للأمن الأميركي، قد يكون محرجا للحكومة، لكنه ليس بالضرورة مضرا للأمن القومي. فالكشف عن قضايا التعذيب والمعتقلات السرية وتجاوزات وقعت في العراق أو أفغانستان، أو مبالغات في تجميع معلومات الاتصالات الهاتفية ورسائل البريد الإلكتروني وسجلات التصفح الإنترنتي للملايين من الناس، دون شبهة محددة أو إذن قضائي، كان أمرا مفيدا ومطلوبا من أجل التوازن بين صلاحيات الحكومة وحقوق المواطن، بين احتياجات الأمن ومتطلبات الخصوصية. فمن غير هذا التوازن من يردع الحكومة إذا تجاوزت؟