كتاب 11
الضيـاع !!! أين الدكتور تـركي الحمـد؟
يبدو أن د. تركي الحمد مصاب بكثير من الإحباط بدليل إبتعاده عن الكتابة في الشأن العام وهو الأكاديمي والكاتب الذي لا يشق له غبار. أن يصاب شخص مثل الحمد بالإحباط أو الإكتئاب أو أي مرض نفسي مشابه نتيجة عداوة من بعض أدعياء الدين والوطنية، أو من يقول عنهم القصيبي: “يؤذي نفوسهم أن ينجح الآخرون”، فذلك أمر طبيعي. لكن، إستسلام تركي الحمد لأولئك، وأن يقتصر على مشاركات طفيفة في تويتر فقط، فذلك أمر غير طبيعي. تركي الحمد ثروة وطنية ومعدن أصيل أغلى وأهم من مناجم الذهب التي إلتفتنا إليه مؤخراً مع رؤية 2030 لتنويع مصادر الدخل. فتنويع مصادر الفكر الإداري والسياسي والديني والإجتماعي من ثرواتنا الوطنية التي تمشي فوق الأرض، هو أهم بكثير من ثرواتنا الوطنية التي تختبيء تحت الأرض. ونجزم بأننا في السعودية اليوم أحوج ما نكون في هذه المرحلة إلى أبناء هذا الوطن المخلصين المتنورين مهما إختلفت أراءهم وأفكارهم عن السائد. وجود مفكرين وطنيين مثل د. تركي الحمد وأمثاله في مجموعة موازية كاشفة وناقدة يستنير بها ولاة الأمر خارج السلطة التنفيذية هو دليل عقل ومنطق وحكمة، وبوليصة تأمين ضد الضياع، لا سمح الله.
قرأت تغريدة أطلقها تركي الحمد قبل أيام ذكرتني بالقصيبي، رحمه الله، ولم أتمكن من حبس دموعي عند قراءة التغريدة لشعوري بصدقها، وتقول: “كم أحب هذا البلد، لكني أخشى عليه من الضياع”. التغريدة تبدو عادية لكثير من المغردين، لكنها لم تكن عادية بالنسبة لمن يقرأ السياق والسباق للتغريدة، ويعرف تخصص وإنتاج الدكتور تركي الحمد، ويعرف التحولات الدولية في كافة المجالات، ويدرك ما تواجهه السعودية اليوم، ويحب هذا الوطن قبل كل شيء. لماذا كتب تركي الحمد هذه التغريدة ولماذا قدم بتأكيده لحب بلده؟ لأن بقية التغريدة، على ما نظن، تنذر وتحذر من أمر جلل وهو “الضياع”. تغريدة واحدة من مفكر مثل الحمد، تكفي لتختزل المشهد السياسي والإقتصادي والإجتماعي في السعودية، ونجزم أنها تتمحور في أعمق أعماق فكر ولاة الأمر. الحاكم، أي حاكم، يجتهد دوماً في تلمس الأفضل، لأنه يخشى على بلده من الضياع. والبلد هنا مصطلح عام وشامل للدولة بكل مافيها. عندما يكتب هذه التغريدة شخص عادي وليس متخصص، يمكن إدراجها ضمن ملفات المشاعر الوطنية التي تزداد عادة عند الأزمات أو الشعور بها، لكن أن تأتي من مفكر سياسي مثل تركي الحمد فهذا أمر يحتاج إلى تأمل وتفكر.
بلغ تركي الحمد من النضج والتراكم المعرفي الحد الذي يسمح له أن يشخص الحالة السياسية والإقتصادية والإجتماعية التي تمر بها السعودية، فهو أشبه بطبيب أخصائي يشاهد ويلمس أعراض تستوقفه فيصرح برأيه العلمي بكل وطنية وشفافية وجرأة، ولذا فقد قدم التصريح بالحب، قبل تشخيص المرض وهو الضياع. لكن ماهو الضياع Loss: هو “تلف وَلَهْو وإهمال، وفي (علوم النفس) حالة نفسية من مظاهرها الحيرة وغياب الهدف والتشتت الفكري والشعور بالوحدة وبالحرمان من العون والهداية” (معجم المعاني، قوقل). حسناً، يمكن لنا أن نجادل بأن المفكر السياسي د. تركي الحمد ربما بحكم تخصصه في النظرية السياسية أدرك أن العالم يتقلب في مدارس سياسية مختلفة، وفي نظريات إقتصادية متعددة، وفي مناهج إجتماعية متجددة، لا يمكن الجزم بأي منها، وأن السعودية محتارة بين تلك المدارس والنظريات والمناهج، وبالتالي فهو يخشى عليها من أن تنزلق بحسن نية إلى أي من تلك المدارس والنظريات والمناهج التي قد تتضاد مع بعضها ولا تؤدي إلى المأمول، بل إلى الضياع.
ينظر المتابع لما يجري في العالم اليوم ليكتشف أن العالم في حالة تخبط نتيجة عوامل كثيرة لا يمكن حصرها. في الولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال، وفي غمرة الإنتخابات الحالية نجد أن إرتفاع شعبية المرشح الجمهوري دونالد ترامب جاءت رغماً عن أنف كل المدارس السياسية السائدة في ذلك الجزء من العالم. أطلق ترامب مدرسة سياسية تعرف بـ “الشعبوية” Popularism وهي مدرسة قديمة قدم الفلسفة اليونانية. الشعبوية بإختصار، هي رفض إحتكار الأقلية للثروة على حساب الأكثرية، مما يعني إعادة هيكلة الحكومة وتغيير لغتها المتسلطة على المجتمع وتخفيف الضرائب وزيادة التوظيف وعدم هجرة رأس المال، والإستثمار في الشعب. وبالرغم من إختراق ترامب كل الأعراف السائدة في الخطاب السياسي الأمريكي، إلا أن نجمه يتصاعد بشكل لافت مما يعني أن هناك تغيراً في مفهوم المجتمع الأمريكي للمفاهيم القديمة لعمل الحكومات، نتيجة سوء الإدارة ربما، ونتيجة فشل الحكومات المتعاقبة في الوصول إلى السعادة كقيمة مثلى يسعى الجميع إليها.
نعود لنؤكد أن السعودية اليوم بحاجة ماسة للمفكر السياسي تركي الحمد وأمثاله من الوطنيين الأحرار المستقلين، للإستعانة بهم كمجموعة “الظل” تنصح لولاة الأمر، وللحكومة وتكون إبرة البوصلة السياسية عند مفترق الطرق. تركي الحمد وأمثاله، لا ينتجون في ظل السلطة، فإبداعاتهم تأتي من خارج السلطة. الأكاديميون والمفكرون لا ينتجون كوزراء في التخطيط أو التنفيذ، بل في نقد التخطيط باديء ذي بدء، ثم تحديد الخطأ في التنفيذ. هم يرون الأمور بشكل كلي وبنيوي، يرون ترابط القضايا الصغيرة والكبيرة، البعيدة والقريبة، ويدركون التعامد Interdependence بين بعضها البعض وتأثير كل عنصر على العناصر الأخرى. يرون ما يطلق عليه “الزوايا الغير مرئيّة” ويفكرون على الدوام فيما لا يفكر فيه. كما يذهبون أكثر إلى أس البناء أو منبع المشكل Structural Factors. النظرية السياسية التي تخصص فيها المفكر تركي الحمد، تسمح له أن يستعرض كل النظريات السياسية في التاريخ لكي يقدم نقداً لمسار سياسي معين، أكثر من تقديمه حلاً سريعاً. بإختصار، ولاة الأمر والحكومة “بحاجة إلى النقد أكثر من الثناء”، وهو ما أكد علية ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، لحظة إعلان البدء في التحوّل.
أخيراً، إذا كانت السعودية بحاجة ماسة لتنويع مصادر الدخل المادي، فهي بحاجة أمس إلى تنويع مصادر الدخل الفكري. المفكر السياسي تركي الحمد وأمثاله من الكنوز السعودية ذات المعدن الوطني الأصيل التي تمشي بيننا على الأرض، أعلى قدراً وأغلى ثمناً من كل الكنوز والمعادن التي في باطن الأرض وتنفق السعودية البلايين لإكتشافها والإستفادة منها. العقل والمنطق يقول أن نستقطب وندفع لمن يدلنا على الطريق الصحيح الذي يوصلنا إلى الغاية المستهدفة. لكن العقل والمنطق والحكمة، تؤكد، أيضاً، أن نستقطب وندفع أكثر لمن يحذرنا من طريق لا يوصلنا إلى الغاية المنشودة، والأهم أن يكشف لنا فيما إذا كان ما نسميها غاية مستهدفة، هي المنشودة لتحقيق ما يراد. السياسة مدارس، والإقتصاد نظريات، والإجتماع مناهج، تتغير وتتبدل بتغير الزمان ومكونات البيئة المحيطة. ختاماً، عاش غازي القصيبي، رحمه الله، بيننا دهراً من الزمان لم يسلم من أذى البعض من مجتمعنا الذي لا يعترف بوطنية وفكر وقيمة الأشخاص إلا بعد موتهم. السؤال: أما أن لنا أن نتعلم من أخطأ الماضي لكي نسلم من الضياع؟ حفظ الله الوطن.
كاتب سعودي
turadelamri@hotmail.com
@Saudianalyst