كتاب 11
بين السعودية ومصر: هل هناك مكان للركوع لغير الله؟
انفجار الخلاف السعودي – المصري على النحو الذي حصل مدهش فعلاً. فجأة ظهر الخلاف على السطح بين أكبر دولتين عربيتين في أخطر مرحلة في التاريخ الحديث للعالم العربي. انفجر الخلاف حول الموقف من سورية بعد أكثر من ثلاث سنوات من زيارات متبادلة، وتفاهمات بدا أنها راسخة، واتفاقات واستثمارات كبيرة. وهذا يشير إلى أنه لم يكن هناك اتفاق مسبق بين الرياض والقاهرة كما يبدو للتنسيق حول القضايا الإقليمية المهمة لكل منهما، في مرحلة حرجة تفرض استحقاقات دقيقة. بحسب الخطاب الرسمي المصري يتمثل موقف مصر من الأزمة السورية في الأمور الآتية: إيجاد حل سياسي للأزمة، والحفاظ على وحدة الأراضي، واحترام إرادة الشعب، ونزع أسلحة الجماعات الإرهابية وإعادة الإعمار، ثم فجأة ظهرت جملة «مصر لن تركع إلا لله»، وهي جملة مربكة عادة ما تقال أمام تحد أو تهديد من عدو جبار متكبر. واستجابة لمناخ هذا الخطاب كتبت صحيفة «الأهرام» رأيها يوم الجمعة الماضي بعنوان «مصر لن تركع».. لن تركع لمن؟
محددات السياسة المصرية تجاه سورية ليست محل خلاف مع السعودية. لكن هناك خلافاً في التفاصيل التي يختفي بين سطورها الشيطان. لا يتسع المجال لكل التفاصيل، ولا ضرورة لذلك هنا. لنسأل عن «الجماعات الإرهابية» التي يجب نزع سلاحها على وجه التحديد. هل يشمل هذا المفهوم في رأي القاهرة كل الجماعات التي تقاتل في سورية، السوري منها وغير السوري، السنّي والشيعي؟ أم أن هناك تمييزاً بين هذه الجماعات؟ الموقف الإيراني مثلاً واضح في هذه المسألة: الإرهاب بالنسبة لطهران هو الإرهاب السنّي حصراً من دون تمييز. كل التنظيمات السنّية بالنسبة للإيرانيين إرهابيون وتكفيريون، لأنهم يرفضون حكم الأسد. وهو ما لا ينطبق على الميليشيات الشيعية («حزب الله»، و «كتائب أبو الفضل العباس»، و «عصائب أهل الحق»، والخراسانيين، و «الحشد الشعبي»، وغيرهم كثير) التي تقاتل دعماً للأسد. هل يتماهى الموقف المصري مع الموقف الإيراني حيال هذه المسألة؟ لا أظن، لكنه موقف في حاجة إلى توضيح.
نواجه المعضلة نفسها عندما نأتي إلى موقف مصر من وحدة سورية في أتون أزمتها الحالية. هل يمكن المحافظة على هذه الوحدة مع وجود ميليشيات تتقاتل من منطلقات طائفية، ومع وجود رئيس هو من أطلق هذا التقاتل بتحالفه مع إيران وسماحه لها بجلب مقاتلين يدافعون عنه – أفغان وعراقيين ولبنانيين – من لون طائفي واحد؟ عندما فشلت إيران في حمايته استعان بالروس. هل يمكن المحافظة على الوحدة في ظل ذلك بالقتل وتدمير المدن الوحشي الذي يمارسه النظام السوري بمساعدة من إيران وميليشياتها، ومن روسيا، ضد المدنيين والمقاتلين معاً؟ هذه سياسة للتركيع والترويع وانتهاك الحقوق، وليس للتأسيس لوحدة وطنية. وهي سياسة لم ولن تجدي. ثم كيف يمكن المحافظة على وحدة سورية ورئيس الدولة نفسه بات يعتمد في بقائه في السلطة على قوى وميليشيات أجنبية، وليس على الشعب السوري؟ تلتزم القاهرة الصمت حيال مستقبل بشار الأسد، على رغم أنه أصبح رمزاً لتمزيق سورية وليس لوحدتها. تلمح إلى أن وحدة سورية تتطلب بقاءه. لكنها لا تستطيع المجاهرة بذلك، لأن مصر شهدت ثورة، ولأن الأسد بات عبئاً سياسياً بعد أن أدخل إيران ثم روسيا إلى سورية للدفاع عنه، وتسبب في مقتل أكثر من نصف مليون سوري، وتشريد عشرات الملايين، وتدمير المدن السورية. هذا لب المأزق، ليس فقط في الموقف المصري، بل الموقف العربي الذي يبدو مشلولاً بالخوف، والنظرة الضيقة والتفاصيل الصغيرة.
يبدو الموقف المصري بعموميته غطاء لرفض مضمر لفكرة الثورة السورية ضد نظام الأسد. ومن ثم فإن أي حل سياسي ينتهي بوضع نهاية لحكم الأسد ينطوي في نظر البعض على مخاطر لا قبل لمصر بها في ظل الأزمة الاقتصادية والسياسية الخانقة. لكن من الواضح أن أي حل سياسي لا يؤدي في نهاية المطاف إلى وضع حد لحكم الأسد لن يكتب له النجاح. فطبيعة هذا النظام وتحالفاته فجرت الأزمة وانتهت بها إلى وضعها الحالي. تخشى مصر، كما يبدو، من أن نهاية حكم الأسد ستفضي إلى نهاية حكم الجيش في سورية، الأمر الذي سيضع حكم الجيش في مصر تحت الأضواء والتدقيق داخلياً وخارجياً، خصوصاً في ظل أزمة تتفاقم، وتحالفات تتآكل. من ناحية ثانية ستفتح نهاية حكم الأسد الباب أمام «إخوان» سورية لأن يصبحوا طرفاً في الحكم هناك. وهو تطور سيتضافر مع وجود أحزاب مشابهة في الحكم في كل من الأردن والمغرب وتونس، ليعطي دفعة لـ «إخوان» مصر، ما يشكل مزيداً من الضغط على الحكومة المصرية في ظروفها الحالية. أخيراً هناك توجس بأن نهاية حكم الأسد في هذه المرحلة ستشكل إضافة للرصيد السياسي للسعودية والخليج، وستضع بالتالي مصر أمام خيارات تريد تجنبها في هذه المرحلة على الأقل. عندما تنظر إلى المشهد من هذه الزاوية تتبدى لك حقائق المشهد العربي. أولاً أن غموض المواقف السياسية داخل الدول العربية وفي ما بينها أثبت أنه غموض ليس بناء بأي معنى من المعاني. ثانياً أن تمكن هذا الغموض يشير إلى أن فكرة قيادة دولة عربية بعينها للعالم العربي أقرب إلى الوهم منها للحقيقة. وفي كل الأحول هي مهمة مكلفة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً. لا قبل لأي دولة عربية بذلك. والأكيد أن زمن القيادة الفردية للمنطقة إذا لم يكن وهماً، فإن الزمن تجاوزه الآن. ثالثاً أن الساحة العربية مستباحة في العراق وسورية على الأقل، وليس هناك وقت إلا لتفاهم سعودي – مصري. كل منهما في أمس الحاجة للآخر، والمنطقة في أمس الحاجة لهما. رابعاً أن حاجة مصر للسعودية والخليج ليست محصورة في الدعم المالي. وكما أن السعودية في حاجة ماسة لدعم مصر السياسي، فإن مصر في حاجة للدعم ذاته. هذا إذا افترضنا أن المنطلقات والأهداف السياسية إقليمياً واحدة، أو متشابهة على الأقل. خامساً أن حكاية مسافة السكة التي تتردد كثيراً تعطى أكبر من حجمها على حساب تفاهمات ومصالح أخرى كان ينبغي أن تتقدم عليها كثيراً، وأن يتحقق الاتفاق عليها قبل أي شيء آخر. أخيراً ما هو موقع الحديث عن الركوع لغير الله في كل ذلك؟ هو حديث لا لزوم له، وفي غير زمانه أو مكانه، لسبب بسيط: ليس بين الجزيرة العربية والخليج العربي ومصر مساحة للركوع لغير الله. فلنضع هذا الأمر جانباً، ولنتكلم في العروبة والسياسة ومتطلباتها وما يرتبط بها من مصالح مشتركة في شكل مباشر وشفاف. من دون ذلك لن تتوقف الخلافات العربية عن مفاجأتنا جميعاً عند كل منعطف حرج، لتزيده حرجاً وإرباكاً.