مصر الكبرى

05:10 مساءً EET

أشرف راضي يكتب : مصر بعد انتخاب الرئيس 2

نتائج انتخابات الرئاسة بين خطابينوضعت اللجنة العليا لانتخابات الرئاسة في مصر حداً للشائعات وللتشكيك في نزاهتها وأراحت أعصاب الملايين المتوترة، بإعلانها النتائج الرسمية للجولة الثانية لانتخابات الرئاسة مساء الأحد. وحرص المستشار فاروق سلطان رئيس اللجنة على إلقاء كلمة مطولة يشرح فيها ما تم منذ انتهاء الجولة الأولى للانتخابات وحتى اللحظات الأخيرة قبل المؤتمر الصحفي الذي أعلنت فيه اللجنة النتائج الرسمية والنهائية.

واتساقاً مع روح الديمقراطية، وجب إعلان احترام هذه النتيجة التي جاءت مخالفة لتوقعات البعض ومؤكدة لتسريبات تمت من داخل اللجنة لوسائل الإعلام أشارت إلى أن النتيجة ستكون في صالح مرسي. وإعلان احترام النتيجة إنما دافعه الحرص على التجربة الديمقراطية الوليدة والتي لا ينبغي الكف عن السعي لترسيخها والدفاع عنها في مواجهة أي قوة ستسعى لمصادرتها، والتصدي لأي حجج أو ذرائع قد تساق للانقلاب عليها، والتصدي لأي قوة تسعى لتفريغ هذه الديمقراطية من مضمونها والالتفاف على أي من آلياتها الأساسية وفي مقدمتها المحاسبة. فالديمقراطية ليست فقط ديمقراطية الصندوق كما يتصور البعض، وإنما هي مجموعة من الآليات والترتيبات لإدارة الخلاف في المصالح والتنوع في الآراء ووجهات النظر
.وخلافاً لكثير من المشاهدين الذين أبدوا تململاً من كلمة المستشار سلطان استعجالاً لسماع النتيجة النهائية، تابعت باهتمام شديد كل كلمة قالها وتأملت كل ما أورده من تفاصيل حتى وصلت اللجنة إلى قرارها. وفي هذه الكلمة ، كما في غيرها من أحكام أصدرها القضاء المصري في عدد من القضايا المهمة، حاول رئيس المحكمة الدستورية العليا السابق تشييد بنيان دستوري يؤسس لانتقال ديمقراطي حقيقي قائم على الفصل والرقابة المتبادلة بين السلطات، وأرجو ألا يهدر هذا الجهد في معمعة الخلاف ونتيجة للانقسامات العميقة التي كشفت عنها الانتخابات أو نتيجة أو في لحظة من لحظات نشوة الإحساس بنظر سنكتشف جميعاً أنها قصيرة ولا معنى لها في جسامة المهمة والتحديات
. ولم تخل كلمة الرجل من مرارة بسبب ما تعرض له، هو وأعضاء اللجنة الانتخابية وزملائه في المحكمة الدستورية، من طعن في نزاهتهم واستقلاليتهم وضميرهم المهني، في حملة سياسية لا يمكن وصفها إلا بأنها شكل من أشكال الابتزاز الرخيص للجنة وأعضائها ومحاولة مفضوحة للتأثير عليهم كي تخرج النتائج على نحو معين. كان من شأن الهجوم المتواصل على أعضاء اللجنة والمحكمة الدستورية أن يخلق حالة من حالات انعدام الثقة الشديد، لكنه ولد فقط إحساساً بالمرارة ضيع على الرجل وعلى أعضاء اللجنة الإحساس بالفرحة في لحظة إعطاء شهادة ميلاد الديمقراطية في مصر وانتصار إرادة المصريين وثورتهم، وانتخاب أول رئيس مدني في تاريخ البلاد
.وحرص الرجل على أن يشرح بالتفصيل كل خطوة وكل ما بذله هو وأعضاء اللجنة والعاملون من جهود للتأكد من أنهم أداروا أول انتخابات رئاسية حرة تجرى في مصر بنزاهة وحياد، رغم الضغوط ورغم تقصير بعض الأجهزة الأمنية التي لم تكن معينة للجنة في أداء عملها في التحقق من صحة بعض الوقائع التي وردت في طعون كلا المرشحين المتنافسين. وأوضح أن الهدف الأول من هذا الجهد هو تحصين أهم منصب في مصر من أي شبهة أو شائبة، وإنقاذ البلاد من أزمة دستورية خطيرة
.وإن كان هناك من يستحق أن يوصف بأنه "رجل دولة من الطراز الأول"، فهو المستشار فاروق سلطان، الذي أثبت، بتجرد ونزاهة، أن المصالح العليا لمصر والمصريين تعلو عنده أي اعتبار آخر وأي إحساس بالمرارة أو تفضيل شخص. لقد أعاد الرجل للقضاء مكانته وأعطى قدوة على كيف تكون الثورة التي تحتاجها مصر في هذه اللحظة، وسيحفظ التاريخ لهذا الرجل أنه سعى لوضع أسس الدولة الدستورية الديمقراطية المدنية، ولن يغفر لنا التاريخ إذا ضيعنا هذا الجهد وسمحنا لأي تيار أو حزب، حتى لو كان الحزب الحاصل على أغلبية الأصوات بأن ينقلب على هذه النتيجة وأن يواصل هجومه على المحكمة الدستورية العليا، سعيا لتقويضها في إطار مسعى للإخلال بالتوازن بين السلطات يفسح المجال لتأسيس استبداد جديد
.للأسف، لم يلق هذا الجهد تجاوباً من جماعة تعلي من مصالحها الذاتية على مصلحة الوطن، وتصم نشوة النصر آذانهم وتعمي بصيرتهم قبل بصرهم، ليبددوا سريعاً كل ما فعلوه لإقناع الرأي العام بأنهم تعلموا من أخطائهم. فلم تمض ساعات حتى خرجت قيادات من الجماعة تعلن رفضهم أن يؤدي الرئيس المنتخب اليمين أمام المحكمة الدستورية العليا وإصرارهم على أن يؤدي اليمين أمام مجلس الشعب الذي قضت المحكمة الدستورية بعدم دستورية بعض مواد القانون الذي جرت الانتخابات على أساسه
. وبعيداً عن الجدل فيما إذا كان حكم المحكمة يستوجب حل المجلس، وما إذا كان من حق المجلس الأعلى للقوات المسلحة تنفيذ حكم المحكمة واستعادة اختصاصات وسلطات مجلس الشعب، فإن حكم المحكمة الدستورية أصاب مجلس الشعب بعيب دستوري، لا يستقيم معه أن يؤدي رئيس الجمهورية الذي جرى تحصين منصبه ضد أي طعن أو شبهة اليمين الدستورية أمامه. ويصبح على الرئيس المنتخب أن يختار أحد ثلاث بدائل: الأول أن يؤدي اليمين أمام المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي استرد سلطات مجلس الشعب، أو أداء اليمين أمام قضاة المحكمة الدستورية العليا حسبما جاء في الإعلان الدستوري المكمل، أو أن ينتظر إلى حين تصحيح الخلل الدستوري لمجلس الشعب.في الحقيقة، إن خطاب النصر الذي ألقاه الرئيس المنتخب، محمد مرسي، لم يكن في رقي خطاب رئيس المحكمة الدستورية العليا. وبعيداً عن إكثاره من "ذكر الله وآيات من القرآن الكريم والأحاديث النبوية في خطاباته"، وفي مسعى على ما يبدو لتأكيد أنه سينهج نهجاً إسلامياً في حكم البلاد، وعودته إلى النبرة الدينية العميقة التي ميزت بداية حملته حيث كان يواجه إسلاميين آخرين في الجولة الأولى، تضمنت كلمته النصر التي ألقاها، والتي اقتبس فيها أقوال لأبي بكر الصديق، أول الخلفاء الراشدين، كثيراً من الإشارات التي يجب التوقف عندها والتنبيه إليها، لما تنطوي عليه من تهديد للديمقراطية الناشئة.قد يكون مقبولاً في لغة الخطاب السياسي، أن يزعم المرشح الفائز لنفسه الحصول على تأييد الشعب، حتى لو كان فوزه بفارق ضئيل بينه وبين منافسه، ولكن يتعين عليه أن يدرك أن نصف الناخبين يعارضونه، وأنه لا يعرف بالتحديد موقف النصف الآخر الذي أحجم على المشاركة، وعليه أن يدرك أن ما يزيد على 60 في المائة ممن صوتوا له كان توصيتهم مدفوعاً بالتصويت العقابي أو اعتبارات أخرى غير تأييد المرشح. وقد يكون مقبولاً في الخطاب الديمقراطي الغربي الذي استعاره مرسي، أنه سيكون رئيساً للجميع من أيدوه ولمن أيد منافسه، ولكن ينبغي التنويه إلى أن هذه العبارة تطرح في إطار فهم واضح عن مسؤولية الرئيس تجاه شعبه وبتعهد واضح بأنه لن يميز ضد معارضيه ويفضل مؤيديه في سياساته العامة. هذا الالتزام لم يكن، للأسف، واضحاً بشكل كاف في كلمة أول رئيس مدني منتخب، التي كرر فيها أنه سيكون رئيساً لجميع المصريين في الداخل والخارج، لكن على نحو يولد انطباع بأن لديه مفهوما للرئاسة مغاير للمتعارف عليه في العالم الغربي.ويزيد هذا القلق تأكيده مراراً على مسألة الطاعة، الرجل هنا يستعير قيما ومفاهيم من الجماعة التي خرج منها ويعطيها الأولوية على قيم المواطنة والعلاقة المدنية الحديثة، واستخدامه عبارة "أهلي وعشيرتي" المتكرر ينم عن ثقافة سياسية وتصور لن يسهما في إرساء قيم سياسية ديمقراطية تقوم على أساس المواطنة وتأكيد السيادة للشعب وهي أمور متوقعة من قيادي في جماعة الإخوان المسلمين، المؤسسة على السمع والطاعة والالتزام الصارم بالتسلسل القيادي الهرمي، ومن الصعب أن يتخلى عنها الرجل بالرغم من كل استقالته من كل مناصبه الحزبية وقطع كل صلاته بالجماعة، حسبما أعلن وأعلنت الجماعة والحزب فور الإعلان عن فوزه بالرئاسة.هناك عدد من النقاط التي يتعين تأكيدها في هذا الصدد: أولاً، أن أي رئيس منتخب في نظام ديمقراطي إنما يمارس سلطاته بموجب تفويض محدد الأجل ومحدد الصلاحيات، ويخضع لمستويات متعددة من الرقابة والفحص والمساءلة سواء عبر المؤسسات والسلطات الأخرى في الدولة أو من خلال الرأي العام عبر وسائطه المختلفة وفي مقدمتها وسائل الإعلام، ومن حق المواطنين تقييم أداءه بشكل دوري طوال فترة ولايته. ومن حق أي مواطن أن يبدي رأيه وبحرية كاملة في كل ما يصدر عن الرئيس من أقوال وأفعال وينتقضها ويعلن معارضتها لها. وتكفل القوانين والمواثيق الدولية للمواطن هذه الحقوق ولا يجوز الانتقاص منها تحت أي مسمى. فالمواطن الفرد هو مناط الحقوق والواجبات وممارستها وأي انتقاص من حقوق الفرد أو تقييد لحرياتهم في التعبير وإبداء الرأي وممارسة النقد والمعارضة، وأي تقييد للإعلام وحريته لن يكون مقبولاً ويجب أن يواجه بحزم وقوة من جانب المواطنين والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام. ويجب أن يتاح للمواطنين الوسائل القانونية التي يستطيعون من خلالها الدفاع عن هذه الحقوق وصيانتها.ثانياً، فيما يتصل بمسألة الطاعة الواجبة للرئيس، فقد صاغها الرئيس المنتخب في عبارات دينية وربطها بمفاهيم دينية على نحو يدعو إلى التشكك. إن مفهوم الطاعة ذاته لم يعد من المفاهيم المستعملة في تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم في النظم الديمقراطية النيابية الحديثة. فالعلاقة في هذه النظم علاقة تعاقدية قائمة على الحقوق والواجبات المتبادلة والمحددة بوضوح والتي ينظمها القانون ويحمي أطرافها. إن إلحاح الرئيس المنتخب على الطاعة التي تكررت الإشارة إليها في كلمته يتعارض مع مبادئ الدولة الدستورية الوطنية الحديثة التي تعهد مرسي بإقامتها في مصر، والتي يجب أن تكون مؤسسة كأي دولة مماثلة على أن المواطن حر وسيد قراره وله حقوق لا يمكن إنكارها، وأن رئيس الدولة إنما يستمد وضعه ومكانته من سيادة المواطنين وحرياتهم.إن نظريات سيادة الدولة الحديثة تؤسس على سيادة الفرد وحقوق الأصيلة التي لا يجوز التنازل عنها أو مصادرتها، وتلك النظريات هي التي ترتكز عليها آليات العدالة الحديثة التي تتيح للفرد آليات كونية للدفاع عن هذه الحقوق والواجبات في مواجهة تعسف السلطة الوطنية والنظم الوطنية القانونية إذا ما قصرت آلياتها عن ضمان تحقيق العدالة للأفراد. ويجب تذكير الرئيس المنتخب والحزب الذي يدعمه بهذا التطور ويجب أيضاً توعية المواطنين بما يتيحه لهم تطور الفكر البشري من آليات للدفاع عن حقوقهم وحرياتهم.ورغم أن الرئيس المنتخب جعل طاعة المواطنين له مرهونة بإقامته الحق والعدل فيهم وبطاعة الله، إلا أن الكلمة خلت من أي إشارة إلى قواعد وآليات محاسبة الرئيس، واكتفى بأن قدم تعهداً شخصياً بأنه سيتقي الله في الشعب الذي يحكمه. وهذا أمر محمود بلا شك، ومعزز لقيام حكم سليم لكن لا يكفي الاعتماد فقط على القيم التي يؤمن بها الرئيس وما يراه حسن في التأسيس لنظام ديمقراطي حديث فالعبرة هنا بموازين القوى والقواعد الواضحة والمباشرة
.ثالثاً، لم ألمس اختلافاً كبيراً في كلمة الرئيس المنتخب عما كان يتردد في خطابات الرئيس السابق حسني مبارك، لا من حيث الصياغة ولا من حيث المضمون، وكأن خطاب النصر الذي ألقاه أول رئيس مدني منتخب اعتمد نفس آليات إنتاج خطاب الرئيس المخلوع. فالرجل تحدث، كما كان يتحدث مبارك، عن أننا "سنواجه معا الفتن والمؤامرات التي تستهدف النيل من وحدتنا الوطنية وتماسكنا الاجتماعي" وتحدث بعبارات غامضة عن الهوية والمرجعية الوطنية على نحو يشتم منه ذات رائحة الحديث عن الخصوصية الوطنية، وكأن الرجل لم يدرك كنه ثورة يناير التي يزعم أنه كان من بين صناعها. كذلك تحدث عن "مشروع كبير" سيخصص له وقته، بالطبع هو مشروع النهضة الوارد في برنامجه الانتخابي والذي نال ما يكفي من التقييم والتعليق
.وكرر الرجل التزامات وتعهدات لم تخل منها خطابات الرئيس السابق، ولم يضف حديثه عن التعامل مع القوى العالمية بندية ورفض التدخل في الشؤون الداخلية للمصريين عما كان يقوله مبارك، وهذا إدعاء ينافي واقع الحال في دولة كمصر، شاء شعبها أم أبى موضع اهتمام قوى إقليمية وعالمية كبيرة، ويكفي هنا الإشارة إلى ما نشرته وكالة أنباء فارس من تصريحات نسبتها لمرسي ومسارعته إلى نفيها، ويكفي أن نشير إلى تصريحات المسئولين الأمريكيين سواء فيما يتعلق بتسليم السلطة للمدنيين وانتقاد حل مجلس الشعب والإعلان الدستوري المكمل والانتقاص من صلاحيات الرئيس
. والسؤال هنا هل هذه التصريحات تعد تدخلا في شؤون مصر وما هو موقفه منها حتى لو كانت تصب في صالحه وفيها تكرار لمطالبه، هل سيتحلى بسلوك رجل الدولة كما تحلي المستشار فاروق سلطان الذي تسامى على كثير من حملات التشهير والطعن من أجل الوطن أم سيغض الطرف عن هذه التصريحات ويستفيد من الضغوط الخارجية طالما أنها تعمل في صالحه وتحقق توازنا في علاقاته مع مؤسسات وطنية؟ اعتقد أن هذا سؤال تتجاوز الإجابة عليه حدود قدرات أب فرد حتى لو كان رئيس الدولة وإنما تصاغ من خلال قيم عامة متفق عليها وهذا من التحديات التي يتعين على الرئيس الجديد أن يواجهها.

التعليقات