كتاب 11
«جاستا».. ترامب.. وبيريس
ما العلاقة بين «جاستا»، ودونالد ترامب وجنازة شيمعون بيريس؟ تمرين ذهني على التحليل والقراءة السياسية لدارس السياسة المستجد.
لا يستطيع دارس السياسة أن يضرب الودع لقراءة نتائج القانون الذي أقره الكونغرس الأميركي بمجلسيه (الشيوخ والنواب) المعروف بـ«جاستا» أو «العدالة ضد رعاة الإرهاب» وبهذا الحجم من التأييد الجمهوري والديمقراطي الكاسح بما يزيد على 90 في المائة من الأصوات، كما أن دارس السياسة أيضا لا يستطيع قراءة نتائج الانتخابات الأميركية بعد مناظرة دونالد ترامب وهيلاري كلينتون الأخيرة، كما أننا لا نستطيع ببساطة أن نقرأ حجم الحضور الدولي الكبير والمبالغ فيه في جنازة رئيس إسرائيل البولندي الأصل شيمعون بيريس. لكن ما يجب أن يتعلمه طالب السياسة هو قراءة المؤشرات من دون اندفاع إلى نتائج متعجلة، كما تخرج الأجنة من الأرحام قبل اكتمال المدة.
البداية من دونالد ترامب وحركة الشعبوية السياسية التي قادها ضد المؤسسة الحاكمة في الولايات المتحدة الأميركية، حيث بنى ترامب حملته الانتخابية على دغدغة المشاعر البدائية عند الطبقة العاملة البيضاء والطبقة المتوسطة التي ما زالت تغازل العنصرية ورفض الآخر المهاجر والعرقي المختلف. هذا النوع من الشيفونية الوطنية ليس مبنيًا على خلاف فكري بين الجمهوريين والديمقراطيين، بل مؤسس على هوجة المشاعر البدائية، وتفوق تيار ترامب الشعبوي في انتخابات الحزب الأولية على التيار الديني الذي مثله تيد كروز، والآن يقترب من منافسته كلينتون، رغم أنها أكثر خبرة وأكثر إلمامًا بالسياسة من ترامب، وتحمل خطابًا متماسكًا في السياستين الخارجية والداخلية، ومع ذلك تشير استطلاعات الرأي إلى أن ترامب ما زال له أنصار لا يستهان بعددهم. فرغم أن كلينتون متقدمة من ثلاث إلى خمس نقاط في استطلاعات الرأي الشاملة، فإن ذلك يبقى في مساحة هامش الخطأ في استطلاعات الرأي. أي أن خمس نقاط أكثر أو أقل، تعني أن النسبة متقاربة جدًا ولا يمكن التكهن بمن سيفوز.
هذا التيار الشعبوي الرافض للمؤسسة ولواشنطن وطبقة السياسيين فيها، هو الذي جعل الكونغرس من دون تردد يتعاطف بشكل مطلق مع ضحايا 11 سبتمبر (أيلول) وأسرهم ضد أي أجنبي، أيًا كان. وهذا جزء من سياسة الانغلاق التي يقودها ترامب ضد الصين والمكسيك وكل الأجانب. وهنا تأتي المملكة العربية السعودية ضمن حزمة الأجانب. ولهذا كان التصويت كاسحًا.
إذن يمكن قراءة التصويت بنعم على قانون «جاستا» كمؤشر لفوز تيار دونالد ترامب في الكونغرس، وربما نرى «كونغرس» جمهوريًا في الانتخابات المقبلة يصعد أعضاؤه على ذيل عباءة ترامب السياسية. النقطة بالنسبة للمحلل المبتدئ هي ألا تقرأ قانون «العدالة ضد رعاة الإرهاب»، بل أن تقرأ معنى التصويت عليه في السياق الانتخابي الأميركي. أي أن هذا التصويت هو مؤشر على نتائج السياسة الداخلية في الولايات المتحدة وليس سياستها الخارجية، بدليل أن كلام المحامين، بمن فيهم الرئيس الأميركي باراك أوباما، القائل إن هذا القانون يؤذي أميركا أكثر، لم يستمع إليه أحد وصوت الكونغرس بأغلبية غير مسبوقة ضد الرئيس. الأميركيون الآن يستمعون إلى صوت العواطف الشيفونية وليس العقل. وإذا كان الأمر كذلك، فمن يظن أن الرئاسة مضمونة للسيدة كلينتون بحكم التجربة والخبرة والعقل، فعليه أن يعيد حساباته، لأن اللحظة العالمية عمومًا والأميركية خصوصًا، غير عقلانية الآن، وتتسم بعاطفة بدائية.
إلى هنا وقد فهمنا أن «جاستا» مؤشر على سير السياسة الداخلية في أميركا، ولكن ما علاقة ذلك بالنسبة للمحلل السياسي المبتدئ وجنازة بيريس؟
في سياسة الجنائز، ورمزية الدفن وفي الأحداث الكبرى كالمؤتمرات، يجب أن تقرأ ما يحدث على الهامش وليس في مركز الحدث. فقبول الدعوات في مؤتمرات كبرى تعرف مسبقًا من سيحضرها بالنسبة لأي دولة، معناه قبول هذه الدولة بحوارات جانبية مع كثير من الدول الممثلة في الحدث، لذلك يكون من الحماقة أن تحكم مثلا على رئيس السلطة لأنه حضر جنازة خصمه وعدوه التاريخي، ولكن أين سيجد الرئيس محمود عباس تجمعًا بهذا الحجم، به كل اللاعبين، ليطرح موقفه بوضوح تجاه عدوه ولمصلحة قضيته؟ لا يمكن لعاقل أن يقبل أن يرضخ محمود عباس لابتزاز عاطفي ويمنع نفسه من فرصة اللقاء بأوباما مثلا وبقية القادة الحاضرين الذين مثلوا أكثر من مائة وخمسين دولة!
اللقاءات التي تحدث على جانب الأحداث الكبرى كالجنازات المهمة أو المؤتمرات الكبرى، هي التي يجب أن ترقبها عين المحلل السياسي النابه، أما دفن بيريس في حد ذاته فلا يمثل قيمة سياسية. لم يكن محمود عباس وحده الذي استفاد من جنازة بيريس، ولكن إسرائيل أيضا كدولة منظمة لعزاء سياسي من النوع الفاخر.
الفكرة في كل هذا هي أنه من الأفضل للمحلل السياسي المبتدئ أو طالب العلوم السياسية المستجد أن يقرأ المؤشرات لتوصيف الأحداث. فنصف العلم الوصف، أما الشرح والتنبؤ بالنتائج فهما عمليتان مصاحبتان، إذ تستطيع النظرية السياسية أن تفسر وتشرح، ولكنها لا تستطيع التنبؤ إلا ما ندر.
ما نراه من «جاستا» إلى ترامب إلى جنازة بيريس، هو صعود اليمين العالمي الرافض للآخر المختلف، الذي يتعيش سياسيًا على هذا الرفض في حالة تصويت الكونغرس وصعود ترامب، الذي كان ينظر إليه كنكتة سياسية في أول الانتخابات.
ربما صعود اليمين ودفن اليسار في احتفالية مهيبة جاء في رمزية جنازة شيمعون بيريس البولندي اليساري، رغم أن اليسار واليمين في دولة عرقية دينية هو نوع من خداع الذات، فإن مشهدًا كهذا محمل بالرمزيات، ويمكن ربط هذا المقال بمقالي في الأسبوع الماضي حول التفسير الديني للخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي. المقال في الصحيفة يقرأ أيضا في سياق سلسلة مقالات أخرى، وتلك نصيحتي لدارس السياسة المبتدئ.