كتاب 11

12:28 مساءً EET

ما بين النموذج الأمريكي والألماني كيف نبني نموذجنا الاقتصادي البحريني؟

نجحت حكومة البحرين إلى حد كبير في بناء نموذج مميز وقواعد صلبة للتنمية المستدامة وذلك عن طريق نظامها الاقتصادي والاجتماعي القائم على ثلاثة أساسات مجانية – أو بأسعار رمزية- الصحة والتعليم والإسكان. وبذلك خلقت بيئة مطمئنة لجميع الطبقات بما فيها الطبقة المتوسطة والفقيرة. وهذه معادلة نجحت فيها دول قليلة جداً مقابل فشل عديد من الدول المتقدمة على رأسهم أمريكا، وبمجرد مشاهدة الجدال الدائر بين مرشحين الرئاسة الأمريكية وناخبيهم ممكن أن نعرف درجة فشلهم في تأسيس نظام تنموي متطور ومستدام بالذات للصحة والتعليم والإسكان.
أقول هذا ونحن في البحرين مقبلون على تحديات جديدة وصعبة جداً -حالنا حال عديد من دول العالم- وأيضا تعكف الحكومة على إعداد مشروع الميزانية العامة للدولة من أجل عرضه على السلطة التشريعية في ظل أسعار نفط متدنية وأزمات إقليمية ودولية كثيرة. هذه الظروف تضع هذا النموذج البحريني الناجح أمام تحد كبير يجب علينا أن نتعاون جميعا من أجل ضمان استمراره بنفس الجودة والمجانية/ شبه مجانية على أقل تقدير ومن ثم نعمل على تطويره وتحديثه.
ولضمان نجاح أي نظام أو برنامج وطني يجب أن يكون صناعة محلية، يراعي البيئة المحلية ومكوناتها، لا أن يكون مستوردا من الخارج فيصعب علينا تطبيقه أو موائمته مع أوضاعنا الخاصة. هذا لا يمنع أن ندرس تجارب الدول الأخرى سواء الناجحة أو الفاشلة من أجل استخلاص العبر والأفكار التي تساعدنا على بناء النظام الأنسب لنا والأكثر واقعية وقابلية للنجاح.
ومن أفضل المقارنات التي ممكن أن ندرسها قبل تبني نظامنا المحلي الخاص من وجهة نظري هي بين النظام التنموي الأمريكي مقابل الألماني.
ومنذ سنوات طويلة والاقتصاد الأمريكي يعاني من أعراض عديدة مثل ظاهرة الاستعانة بخدمات المصانع أو العمالة في الخارج Outsourcing وأسهمت بشكل سلبي ومتسارع بإغلاق كثير من المصانع الأمريكية والاستغناء عن خدمات العمال والموظفين مقابل الاعتماد على مصانع في الصين أو تايوان أو مراكز اتصال في الهند مثلا للقيام بمهامهم. فالنظام الرأسمالي الأمريكي يشجع على حرية ومرونة انتقال رأس المال والقوى العاملة ولكنه لا يراعي آثاره. ومن أكبر هذه الأضرار هو اختلال ميزان الصادرات والواردات، ففي عام 2011 وصل الدين التجاري لأمريكا إلى 800 مليار دولار أما في ألمانيا فحققت في نفس العام فائضا في الميزان التجاري أكثر من 200 مليار دولار!
وحققت ألمانيا هذا النجاح الهائل برغم أن تكلفة العمالة عندها أعلى من أمريكا بمتوسط 25% وتصل إلى أكثر من ذلك في قطاعات معينة مثل قطاع صناعة السيارات الذي تشتهر به الدولتان. ففي عام 2010 أنتجت ألمانيا 5.5 ملايين سيارة مقابل 2.7 مليون سيارة أنتجتها أمريكا ولم يكن السبب في ذلك هو انخفاض كلفة الإنتاج في ألمانيا أو أنها تستورد عمالة رخيصة، بل على العكس من ذلك كانت أجرة العامل الألماني بالساعة الواحدة تعادل 67 دولارا مقابل 33 دولارا بالساعة للعامل الأمريكي!
فألمانيا تفكر في خلق نظام تنموي يساعد على استدامة الخدمات ونمو واستفادة الاقتصاد بكل مكوناته. أما أمريكا فنظامها الرأسمالي مصمم لخدمة أصحاب المؤسسات والشركات الكبيرة أو بمعنى آخر أصحاب رأس المال ولا ينظر إلى مصلحة الطبقة المتوسطة أو الفقيرة ولا حتى الاقتصاد ككل.
فَلَو أردنا أن نطور نظامنا الخاص فعلينا أن نتجنب النظام الأمريكي تماما ونتعلم الدروس من النظام الألماني ونختار منها ما يناسبنا. فالنموذج الألماني مثال واضح على أن وجود قطاع صناعي يعتمد على ربط إنتاج المؤسسات الصغيرة والمتوسطة بالشركات الألمانية الكبيرة في بيئة داعمة ومحفزة وبرواتب عالية مع وجود ضمان اجتماعي social security safety net يضمن للمواطنين كرامتهم ويشجعهم على العمل في مختلف المجالات من غير الخوف على استدامة الخدمات الصحية والتعليمية أو الإسكان لهم ولعوائلهم من شأنه أن يسهم بنمو اقتصادي كبير للدولة وللمواطنين فيها بشرط أن يتم الاستثمار في العنصر البشري مع التركيز على توجيهها لإنتاج المنتجات المتطورة.
ولكن مع ذلك يبقى أمامنا تحدٍ يختلف عما واجهته ألمانيا أو حتى أمريكا. فهناك كانت العمالة المحلية هي التي تعمل وتحرك الاقتصاد مع رأس المال أما عندنا للأسف فالعمالة الأجنبية الرخيصة هي التي نعتمد عليها في تشغيل رؤوس الأموال والعمل في مختلف القطاعات بسبب إهمالنا لتوريث هذه القطاعات التي تميزنا فيها مثل صناعة السفن واستخراج اللؤلؤ الطبيعي والنسيج وغيرها.
أما في الغرب فهم يحاولون إعادة توجيه وتمكين العمالة الوطنية retooling إلى قطاعات أكثر إنتاج وربحية. فاختلفت المعالجات بين أمريكا وألمانيا، فالأولى استثمرت في أكثر من 47 برنامجا تدريبا فدراليا وعدد لا حصر له على مستوى الولايات المحلية أغلبها فشلت بسبب نظامها وكذلك بسبب فشل الفكرة من أساسها بحسب المفكر المعروف فرانسيس فوكوياما في مقالة نشرها في مجلة فورن أفيرز بعددها الأخير.
أما في ألمانيا فلم يكن التوجه للدفع في زيادة التشريعات لقانون العمل أو التوجه للاقتصاد الذي يعتمد على التكلفة الرخيصة إنما ركزت ألمانيا في 2010 من خلال البرنامج الإصلاحي لمستشارها في ذلك الوقت غيرهارد شرودر على خلق اقتصاد يعتمد على الإنتاجية والجودة. فكانت برامج المهن الصناعية مرتبطة بسوق العمل والمهارات المكتسبة تساهم في جودة وكفاءة الإنتاج.
فنتج عن ذلك قطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة التي تعد مفخرة ألمانيا وسر قوتها وتسمى Mittelstand. وانصب تركيز ألمانيا على حماية ودعم هذه المؤسسات الوطنية الصغيرة والمتوسطة عن طريق عدة مبادرات مثل ربط إنتاجها بحاجة الشركات الألمانية الكبيرة بشرط أن تركز هذه المؤسسات الصغيرة والمتوسطة على جودة وكفاءة منتجاتها وعلى الرغم من أن أغلب هذه المؤسسات هي شركات عائلية لكنها استطاعت أن تنافس الشركات العالمية وعن طريقهم استطاعت ألمانيا أن تنجو من إعصار الصين الصناعي الذي دمر عديدا من القطاعات الصناعية في أغلب الدول المنتجة مثل أمريكا (من 1999 إلى 2011 أسهمت منافسة الصين بفقدان أكثر من مليوني وظيفة في أمريكا!).
فأغلب النظريات الاقتصادية الأمريكية كانت تدعم توجه أمريكا في الانتقال من الاقتصاد الصناعي إلى مرحلة خدمات ما بعد الصناعة. بعكس ألمانيا التي ربطت اقتصادها بالعلاقة بين التعليم والشركات وكذلك بين رأس المال والعمال/الموظفين.
وللإنصاف، نجحت أمريكا في خلق شركات عملاقة ناجحة مثل أبل وغوغل وغيرهم ولكن برغم حجم عوائدهم لم ينجح النظام الرأسمالي الأمريكي في دمج نجاح هذه الشركات العملاقة لخدمة وتعزيز الاقتصاد الأمريكي ككل لينعكس على نسبة البطالة والأهم على عناصر التنمية المستدامة لخدمات الصحة والتعليم والإسكان.
اعتماد أي اقتصاد على عدد محدود من الشركات العملاقة على حساب كثرة وقوة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وعلى الطبقة المتوسطة والاقتصاد المستدام يعتبر خطرا بحد ذاته. فكوريا الجنوبية لديها اقتصاد قوي ولكنه يعتمد على عدد محدود من الشركات الكبيرة مثل LG وسامسونج، فإذا تعرضت هذه الشركات لخسائر لأي سبب سيصعب على الاقتصاد الكوري التعامل مع هذا التحدي.
أما في ألمانيا فهي تعتمد على المؤسسات الصغيرة والمتوسطة ومن خلالهم يتم خلق الوظائف ودعم الاقتصاد وتنويعه. فألمانيا أدركت أنها من خلال توفير التعليم والتدريب المناسب لجعل سوق العمل عندهم متوازن وتنافسي يستطيعون أن يكونوا أفضل من غيرهم وعززوا ذلك برواتب عالية سواء للوظائف الإدارية أو الأعمال الحرفية والعمالية مع وجود نظام للضمان الاجتماعي يطمئن العمالة الألمانية أن مستقبلها وحقوقها الأساسية مضمونة ولا يجب أن تكون مصدر قلق لهم ولأسرهم.
مقابل النظام في أمريكا الذي منذ عهد الرئيس السابق رونالد ريغان الذي خفض نسبة الضرائب على الأغنياء والشركات الكبيرة من غير وجود حماية حقيقة تضع للطبقة المتوسطة والفقيرة أي ضمانات للحصول على الخدمات الأساسية من صحة وتعليم. فطلاب الجامعات يبدءون حياتهم بالاقتراض من أجل الدراسة في الجامعة وبالتالي يكونون محملين بأعباء تسديد الديون منذ بداية مسيرتهم العملية (ينظر لموضوع الديون الطلابية على أنه قنبلة موقوتة، حيث بلغ حجمها في أمريكا 1.3 ترليون دولار في 2016 وهي مبالغ مخيفة في حال لم تسدد بسبب قلة الوظائف أو ضعف الرواتب بحسب موقع Market Watch) وكذلك الحال بالنسبة للحصول على الخدمات الصحية فبحسب دراسة أجرتها جامعة هارفاد في 2009 وجدت أن 45.000 أمريكي يتوفون كل سنة بسبب عدم وجود تأمين صحي! على الرغم من أن أمريكا تعد من أكثر الدول إنفاقا على القطاع الصحي (بمعدل 17.2% من الناتج المحلي الإجمالي) إلا أنه بحسب تقرير صدر عن معهد الصحة والطب الأمريكي إن مليارات من الدولارات تضيع ولا تذهب إلى المحتاجين بسبب سوء نظام الرعاية الصحية الذي يعطي الأولوية لشركات التأمين الكبرى على حساب المواطن الأمريكي.
ونستخلص من هذا أنه عندما تشجع الدولة عن طريق خططها ونظامها الاقتصادي وتدعم دور المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وبالتالي تكون لديهم القدرة على دفع رواتب عالية والدولة تضمن لمواطنيها ضمان اجتماعي ممتاز للخدمات الأساسية (صحة، تعليم وإسكان) تكون إنتاجية الفرد عالية وتنعكس بشكل مباشر على نمو وقوة الاقتصاد وتزيد الطبقة المتوسطة التي تعد الحلقة الأهم في استمرار نمو الاقتصاد. ولكن عندما يدعم النظام الاقتصادي للدولة الشركات الكبيرة فقط وأصحاب رؤوس الأموال الكبيرة على حساب الشركات المتوسطة والصغيرة فلن تستطيع أن تستمر في النمو أو حتى البقاء ولن تدفع رواتب عالية تساعد على زيادة الإنفاق المحلي وتعزز القوة الشرائية، لن تكون هناك ضرورة للشركات الكبيرة أن تدفع رواتب عالية ولن تستثمر أموالها في تطوير نفسها بسبب غياب التوجه الاقتصادي فعندها تكثر المضاربات التي ترفع الأسعار وتحد من القوة الشرائية للمجتمع وتقلص الطبقة المتوسطة وبالتالي يتقلص ويضعف الاقتصاد. مع ضرورة التنبيه على أن دور الشركات الكبيرة أساسي ولكن يجب أن يكون دورهم مرتبطا بدعم المؤسسات الصغيرة لكي ينمو الاقتصاد بشكل سليم وقوي ويصمد أمام التحديات العالمية.
ويبقى أن نذكر بما كتبه توم هارتمن في كتابه The Crash of 2016 بناء على دراسات أوروبية أنه «في أغلب الدراسات للحالة الأوروبية فإن الدول التي تبنت سياسات تقشفية -مثل اليونان وبضغط من صندوق النقد الدولي والدائنين- في الواقع ارتفعت نسبة الدين مقابل الناتج المحلي الإجمالي».
وأكدت ذلك الدراسة الصادرة في 2012 للمعهد الوطني للبحوث الاقتصادية والاجتماعية للمملكة المتحدة «إن نسبة الدين مقابل الناتج المحلي الإجمالي ارتفعت بشكل اكبر وأسرع تحت السياسة التقشفية من لو أنها لم تتبن السياسة التقشفية على الإطلاق».
* عضو مجلس الشورى والرئيس التنفيذي لمركز دان للدراسات والأبحاث الإستراتيجية

التعليقات