كتاب 11

11:32 صباحًا EET

السعودية وأمريكا: الـورطـة الكبـرى

تورطت السعودية في علاقة غير متكافئة مع الولايات المتحدة منذ سبعين عاماً، واليوم تقترب هذه العلاقة من المحاكم إذا ما نجح الكونغرس في الجولة الثانية، بعد نقض الرئيس، وصدر القانون الذي يسمح لعائلات ضحايا هجمات إرهابية بمقاضاة الدول التي تورط رعاياها في تنفيذها أمام المحاكم الأمريكية. مضمون القانون عام وشامل، لكن الموضوع: أحداث الحادي عشر من سبتمبر، كما لم يذكر القانون دولة محددة، لكن المقصود: السعودية. حسناً، تحوّل العلاقة نحو الأسوأ بين السعودية وأمريكا ليس مستجداً فقد بدت ملامحه منذ فترة ليست بالقصيرة، كما أن الأصوات المنادية بإتهام السعودية لم تصمت منذ أحداث سبتمبر المشؤومة. ذهب تهديد وزير الخارجية السعودي بسحب الأرصدة وبيع الأصول السعودية في الولايات المتحدة، أدراج الرياح إن لم يعزز ذلك التهديد من فرص إقراره مما أدى إلى شبه إجماع في غرفتي الكونغرس في تصويت المرحلة الأولى. الموضوع خطير جداً وله أبعاد متعددة ويحتاج إلى إستراتيجية مضادة عاجلة تخرج تماماً عن الإسلوب السائد في الماضي لوزارة الخارجية السعودية للتعامل مع هكذا قضايا، وسنحاول مقارية هذه الورطة الكبرى وإحتمالات خروج السعودية منها بأقل الخسائر.

 

إصدار قانون العدالة والإرهاب “جاستا” له ستة أبعاد: سيادي؛ سياسي؛ إعلامي؛ ثقافي؛ أخلاقي؛ وقانوني. (1) البعد السيادي يكمن في أنه من حق أي دولة أن تسن وتشرع أي قوانين داخل أراضيها يختص بمواطنيها ويحمي أرواحهم وحقوقهم داخل أراضي الدولة وخارجها، لكنه في الوقت ذاته ينتقص من حصانة وسيادة الدول الأخرى. (2) البعد السياسي، أن القانون يرتبط بالدول الأجنبية والمجموعات والأفراد مما يخضع الأمر لإشكالية جديدة وهو القانون الدولي وأصول العلاقات بين الدول والمباديء الدبلوماسية. (3) البعد الإعلامي، أن تأثير الإعلام قوي جداً، التليد منه والجديد، بحيث يؤثر على الوعي الجمعي الأمريكي مما يؤثر على عناصر التقاضي وخصوصاً “المحلفين” حسب النظام الأمريكي؛ (4) البعد الثقافي، أن المجتمع الأمريكي كإمتداد للمجتمع الأوروبي لا يكن وداً للمجتمعات الأخرى وخصوصاً الإسلامية، كما أن “صراع الحضارات” نبؤة حققت ذاتها من خلال ما نشاهده مؤخراً من إحتكاكات بين الثقافات والملل والمذاهب المختلفة. (5) البعد الأخلاقي، أن  هناك ألاف الضحايا الأبرياء من المدنيين الذين أزهقت أرواحهم ظلماً وبغياً وعدواناً وبالتالي فإن من حق عائلات الضحايا الحصول على تعويض مناسب لمعاناتهم بسبب فقد أقاربهم وما لاقوه من معاناة. أما (6) البعد القانوني، أن القانون الجديد يحمل ثلاث إشكاليات: (أ) أن صياغة فقرات وبنود ومواد القانون مطاطة إلى درجة يمكن من خلالها إدانة أي دولة أو وكالة أو مجموعة أو فرد؛ (ب) أن صياغة القانون تم هندستها لإدانة السعودية تحديداً بحسب نتائج التحقيقات والمعلومات المتوافرة التي جمعتها السلطات الأمريكية خلال السنوات الماضية؛ (ج) أن القانون مرتبط بالقانون الدولي مما يجعل منه تغيير في قواعد العلاقات الدولية واللعبة القانونية بين الدول من طرف واحد.

 

يمكن التعامل مع هذه الورطة بأسلوبين: الأول، دبلوماسي ضعيف؛ الثاني، سياسي قوي. الأسلوب الضعيف: (1) إستمالة بعض أعضاء الكونغرس لتغيير رأيهم في الجولة الثانية بعد خطوة الرئيس هو هدر للجهد؛ (2) تعيين فريق علاقات عامة من بعض الشخصيات الأمريكية هو هدر للمال ولعبة مكشوفة للمجتمع الأمريكي؛ (3) تعيين “فريق الحلم” من جهابذة القانون في أمريكا والعالم مطلوب لكنه لن يفضي إلى نتائج قوية ورادعة؛ (4) مقايضة القانون بصفقات مالية أو عسكرية هو إبتزاز يؤكد التهمة ولا ينفيها؛ (5) محاولة الضغط من دول ومنظمات هامشية للتنديد بالقانون هي محاولة يائسة وبائسة. كل الدلائل تشير إلى أن المجتمع الأمريكي مصمم على القصاص من السعودية بكل ما تحمله من إرث ثقافي ديني يتم تسويقه في أمريكا على أنه من الدوافع لإرتكاب جريمة الحادي عشر من سبتمبر، مع عداء تاريخي مستحكم فصّل فيه صامويل هنتغتون في كتابه “صدام الحضارات”. كما أن تأجيل القصاص، وإخفاء بعض التفاصيل لمدة زمنية، وإختيار توقيت التصويت عليه، ووضع “السعودية” داخل إطار الإتهام يخدم أغراض متعددة طويلة المدى.

 

يجدر بالسعودية إتخاذ خطوات وإجراءات عاجلة والتعامل مع هذا القانون بأسلوب سياسي وقوي: (1) أن تصدر السعودية بياناً شديد اللهجة يرفض القانون الجديد، ويرفع الأمر لمجلس الأمن والجمعية العمومية ومحكمة العدل الدولية، مع وقف للنشاطات المالية والتجارية السعودية مع الولايات المتحدة ما أمكن، مع التأكيد على عدم زيادتها حتى إشعار أخر؛ (2) تشكيل “هيئة سعودية عالية” High Saudi Commission ضد الإرهاب ونتائجه ترتبط بالملك ورئيس مجلس الوزراء مباشرة وتضم ممثلين من الجهات الرسمية المعنية ومؤسسات المجتمع المدني والإعلام والقانون والجامعات لصياغة إستراتيجية متعددة المحاور لإدارة كل ما يتعلق بهذه الورطة والقضايا المماثلة؛ (3) أن تستخدم السعودية حقها السيادي بسن قوانين وتشريعات لمحاكمة الدول والمنظمات الدولية تشمل قضايا عديدة ولا تقتصر على الإرهاب وأن تحفظ لنفسها الحق في إختيار من ترى مقاضاته من الدول والمنظمات والمجموعات والأفراد؛ (4) أن تفتح السعودية الكثير من الملفات السرية في المعلومات والتحقيقات وما يماثلها في أجهزة الإستخبارات والسلطات الأمنية التي تدين الولايات المتحدة والدول الكبرى وممارساتها؛ (5) أن تقايض السعودية أصولها وإستثماراتها في الولايات المتحدة مع دول كبرى لتجنيبها التجميد أو الإستحواذ؛ (6) أن تلغي السعودية الكثير من الإمتيازات والمميزات التي تتمتع بها المنظمات والهيئات والشركات الأمريكية داخل الأراضي السعودية؛ (7) أن تشكل السعودية التحالفات السياسية والشعبية والقانونية مع الدول والشعوب الأخرى للحصول على تسهيلات وتوكيلات لمقاضاة الولايات المتحدة في المحاكم السعودية و/أو المحاكم الأخرى.

 

تجتهد الولايات المتحدة بمؤسساتها المختلفة في إلصاق تهمة أحداث الحادي عشر من سبتمبر بالسعودية عبر منهجية فيها الكثير من المكر يمكن النظر إليه من زاويتين: الزاوية الأولى: مخاطبة الوعي الجمعي الأمريكي ورسم صورة يتم بلورتها وترسيخها في الأذهان عبر وسائل الإعلام بشكل متدرج وممنهج على مدى خمسة عشر عاماً، بأن السعودية هي المتهم الأول والوحيد لأنها: مهد الرسالة المحمدية وقبلة المسلمين؛ والدولة التي ينتمي إليها أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة؛ وغالبية من قاموا بالهجوم في سبتمبر من السعودية؛ وصاحبة الإنتشار الثقافي والتوعوي الديني الواسع في العالم، وصاحبة الأموال والثراء والنفط والسلاح، ومصدر الفكر “الوهابي” المتطرف الذي تم ربطه بالإرهاب زوراً وبهتاناً؛ الزاوية الثانية: إبعاد أي شكوك أو إتهامات أو تآمر قد ينسب إلى الحكومات والأجهزة والمؤسسات الأمريكية في التخطيط للعمل أياً كانت الأسباب، أو أي إهمال من السلطات الأمريكية أدى إلى وقوع الهجمات الإرهابية والتملص من المسئولية الأخلاقية والقانونية. فقد نشرت صحيفة “ديلي ستار سن دي”، على سبيل المثال، تقريراً حديثاً في 12 سبتمبر 2016 بعنوان ” ڤلاديمير بوتين لديه صور سرية من الأقمار الصناعية عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر، قد تطيح بالحكومة الأمريكية”. كما أن تقارير مماثلة وتحقيقات كثيرة ظهرت خلال العقد المنصرم تشكك في الحجج الأمريكية الرسمية.

 

يشكل مصطلح “السيادة” Sovereignty الذي رافق الدولة الحديثة منذ ولادتها في ويستفاليا العام 1648 مفهوماً مقدساً لسببين: (1) أنه مصطلح ذو إشتقاقات لاهوتية دينية تم إستعارته، أو سلبه إذا جاز التعبير، من الكنيسة حينذاك لمنح الكيان الوليد صلابة وقوة ومنعة، وهو أقرب ما يكون لمصطلح “الحاكمية” في المفهوم الإسلامي؛ (2) أن إحترام السيادة بين الدول والأمم هو الضمانة الوحيدة للأمن والإستقرار للإبقاء على الحد الأدنى من التنوع الثقافي والإنساني في المجتمع الدولي. ولذا فإن إصدار الولايات المتحدة قانون يتعارض ولو جزئياً مع مبدأ “السيادة” ويلغي حصانة الدول ولو مؤقتاً، هو إجراء يؤدي إلى زعزعة السلم الدولي ويسمح لكثير من التفاسير وإعادة التفاسير لهذا المبدأ المقدس الذي دأبت عليه الأمم في التعامل منذ الأزل تقريباً. وأغلب الظن، أن الولايات المتحدة، حتى كونها القوة الأعظم اليوم، ستكون أكثر من يكتوي بنار هذا القانون إذا ما حاكت دول أخرى السابقة الأمريكية وبدأت في رفع دعاوى ضد الولايات المتحدة ومؤسساتها، ليس بالضرورة في قضايا الإرهاب، ولكن في قضايا أخرى كثيرة ذات أثر ربما أشد وأقسى على الدول والشعوب من الإرهاب.

 

يبدو من خلال تأمل بعض مصطلحات وجمل وفقرات وبنود ومواد قانون العدالة أن هناك إصرار وترصد مسبق لإدانة السعودية: (1) في النسخة الأصلية (الإنجليزية) يذكر بالنص أن هذا القانون: ” لدحر الإرهاب، تحقيق العدالة للضحايا، وأسباب أخرى”، ماهي الأسباب الأخرى ياترى؟ لا أحد يعلم؛ (2) القانون يعتمد على مصطلح “الإرهاب الدولي” حسب المفهوم الأمريكي فقط، ويفتقد تعريف دولي متفق عليه قد ساهمت الولايات المتحدة في تعطيله؛ (3) القانون يحدد “رعاة الإرهاب” والرعاية هنا تخضع، بالطبع،  للتفسير والتأويل الأمريكي؛ (4) تتكرر جملة “بشكل مباشر أو غير مباشر”، مما يجعل القضية والإتهام مفتوح؛ (5) القانون يُحصّن الولايات المتحدة جزئياً لأنه لا يشمل أي فعل من أفعال الحرب؛ (6) القانون ينزع الحصانة عن كل الدول الأجنبية بشكل مطلق أمام السلطات القضائية الأمريكية؛ (7) وردت كلمة أعمال “تقصيرية” Tortious وهي مصطلح فضفاض وواسع يمكن للمهتمين التعرف على إشكاليته في القواميس القانونية؛ (8) تضمن القانون إمكانية وقف الدعاوى إذا شهد وزير الخارجية أن الولايات المتحدة تشارك في محادثات بنية حسنة مع الدولة الأجنبية، مما يشي بنية سيئة للإبتزاز السياسي؛ (9) أن هذا القانون يسري على القضايا التي بت فيها أو لم يبت في كل ما يتعلق بأحداث الحادي عشر من سبتمبر؛ (10) إثبات التهم حسب الأدلة الظرفية Circumstantial Evidences المعمول به في المحاكم الأمريكية يعظّم من إمكانية الإدانة مهما إنتفت الأدلة المباشرة.

 

أخيراً، توترت العلاقات بين الهند والولايات المتحدة في العام 2013 بعد قيام السلطات الأمريكية باعتقال دبلوماسية هندية بنيويورك متهمة إياها بالتزوير، وردت نيودلهي بسحب البطاقات الدبلوماسية من البعثة الأمريكية في الهند، ورفع الإجراءات الأمنية التي تضعها لحماية السفارة الأمريكية في العاصمة، وإيقاف كل التصريحات لإدخال بضائع للسفارة الأمريكية مثل المشروبات الروحية، ومطالبة الإدارة الأمريكية بالإعتذار. رد الحكومة الهندية كان سيادياً وسياسياً وقوياً يتناسب مع عقلية ومفهوم القوى العظمى، والولايات المتحدة على وجه الخصوص. المراقب لما حدث ويحدث منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر يستطيع أن يستشف المكر الأمريكي وإلى أين سيؤدي. ردود الفعل العسكرية العاجلة بعيد الأحداث، ثم الحرب على الإرهاب، ثم إخفاء بعض أجزاء من التقرير، ثم التعريض بالدِين الإسلامي، ثم داعش، ثم إستهداف الوهابية، كلها حلقات تتصاغر قليلاً قليلاً لتصل إلى الرياض. وإذا لم تتخذ السعودية إجراءات حازمة وحاسمة وقوية مع الولايات المتحدة فإن كرامة الدولة السعودية ستُمس؛ وسيادتها ستُنتهك؛ ومصالحها ستتضرر؛ وأموالها ستُسرق؛ وسيصار إلى عزلها؛ وستستمريء الدول الأخرى وتتجرأ على السعودية التي قد لا يراها البعض سوى برميل نفط أو صندوق من المال أو فتوى للجهاد. ختاماً، ورطة السعودية مع أمريكا كبرى ونؤكد أن مقولة “الحزم أبو العزم أبو الظفرات، والترك أبو الفرك أبو الحسرات” حان وقتها. حفظ الله الوطن.

 

كاتب، ومحلل إستراتيجي
turadelamri@hotmail.com
@Saudianalyst

التعليقات