كتاب 11

10:56 صباحًا EET

ضيوف الرّحمن والسيّاسة!

بالأمثلة الحيّة تتضح بقوة مصداقية التصور القائل بضرورة الفصل بين السياسة والدين؛ ذلك أن مناقشة هذا التصور بعيدًا عن الوقائع الدّامغة ظلت دائمًا محدودة التأثير في مجتمعاتنا العربيّة والإسلاميّة، بل إن مجرد النّقاش يعد بالنسبة إلى البعض دليلاً على انخراط في الفكر اللائكي والعلماني وخدمة للأنموذج الثقافي الغربي على حساب الأنموذج الإسلامي.
طبعًا كما نلاحظ فإن الخلط بين المفاهيم والأفكار في هذا الموضوع على أشدّه رغم جهود الكثير من المفكرين العرب في التمييز والتدقيق والتوضيح.
فالفكر اللائكي يقوم على فصل الدولة عن الدين معززًا بذلك الطابع المدني للدولة، في حين أن ما نعاني منه نحن المجتمعات الإسلامية هو حالة الاندغام المقصودة بين السياسة والدين؛ ذلك أن الوصول إلى الحكم ارتبط في مخيلتنا بتوظيف الدين. وهنا نصل إلى الداء الحقيقي وأصل المشكل المتكرر: توظيف الدين في السياسة وجعله يسير حسب مقتضيات الحكم ومصالحه الظرفية والشخصية.
وإذا ما حاولنا القيام بمسح تاريخي موضوعي علمي حول تاريخ توظيف السياسة للدين في الفضاء العربي الإسلامي، لتوقفنا عند جروح دامية كثيرة لا يزال نزيفها حادًا إلى اليوم.
وليس تضخيمًا للظاهرة إذا اعتبرنا أن ما نعرفه منذ سنوات من تأزم وتراجع إلى الخلف في بناء الإنسان العربي المسلم، إنّما يعود في جزء كبير منه إلى ظاهرة استفحال تسييس الدين والتعاطي معه كأداة لبلوغ مآرب وأطماع سياسيّة محضة.
وبالنظر إلى كل هذه الاعتبارات المبدئيّة في خصوص القطع مع توظيف الدين كممارسة مؤذية للدين ومعتدية على قدسيته، فإن خطاب الفصل بين الدين والسياسة يصبح خطابًا يدافع عن الدين لأنه يحميه من آفة التوظيف والاستعمال والمناورة.
وكي نوضح موقفنا أكثر نطرح الأسئلة الاستنكاريّة التالية: كيف يمكن تفسير قرار إيران منع مواطنيها من أداء فريضة الحج لهذا الموسم؟ كيف يمكن التعامل مع قرار نظام يمنع قرابة السبعين ألفًا من مواطنيه عن أداء شعيرة الحج وعن أن يكونوا من ضيوف الرحمن؟
طبعًا هناك أمثلة كثيرة أخرى، يمكن اعتمادها للإقناع بفكرة قدرة التسييس على إيذاء التدين والتدخل فيه بشكل سافر، يعارض قدسية التدين كحرية شخصية لا دخل فيها للدولة. غير أن مثال إيران يخدم فكرتنا في اتجاهين؛ الاتجاه الأول وهو واضح للقاصي والداني ويتمثل في تأثير التوتر الإيراني السعودي على اتخاذ إيران مثل هذا القرار الصادم والناتج عن خلط أوراق السياسة بمسائل تدخل في الجانب الطقوسي الديني، أي أننا أمام حركة مناورة سياسية اقتصادية في موضوع ديني وخاص. فإيران ترى أن منع قرابة 70 ألف مواطن إيراني يعتزمون الحج بمثابة ضغط على المملكة وامتحان لعلاقات القوة.
ومن ثم فإن القرار الإيراني سياسي من رأسه حتى قدميه إن جاز التعبير.
أما المعنى الثاني، الذي يمكن التوقف عنده من المثال الحي المشار إليه فيتصل بمدى درجة الدّولنة التي يمكن أن يصل إليها الدين عندما تتدخل في الفضاء الروحي الديني الخاص للأفراد. فأن يجد مواطن إيراني نفسه ممنوعًا من الحج هو في حد ذاته منتهى الاعتداء على الحرية الدينية الشخصية وشكل عنيف للوصاية الدينية.
فالمثال الذي اخترنا التوقف عنده لا يحتكم إلا إلى موقف سياسي محض. كما أنه يكشف عن قوة الدافع السياسي في تجاوز الديني وتوظيفه بئس التوظيف، حتى ولو كان القائم بالتوظيف يعتبر نفسه دولة دينية وولاءه للدين أولاً وأخيرًا.
وفي الحقيقة أظهر تاريخ توظيف السياسة للدين أن الدين هو الخاسر دائمًا من عملية التوظيف هذه، حيث إن التوتر السياسي أعمى ولا يميز بين السياسي والديني.
إن الدّرس الذي يمكن تعلمه من المثال الإيراني هو تجنيب الدين مزالق السياسة وانحرافاتها وتعزيز خطاب فك الارتباط بين الديني والسياسي. ولا يفوتنا أن دور النخب السياسية الحاكمة في هذا السياق أساسي ومركزي، وبقدر ما تعمل على تخليص الدين من السياسة، فإنها تكون بذلك بصدد خلق ميكانيزمات جديّة للعلاقة بين الدين والسياسة في الثقافة السياسيّة العربية.
لا بد من الانتباه الواعي لخطورة هذه الظاهرة التي استعملها الإسلام السياسي وتستعملها حاليًا التنظيمات المتطرفة والراديكالية… فكل هذه التعبيرات هي نتاج تغلغل فكرة أن الدين طريق الحكم ومفتاحه. وكم هو مزعج أن نجعل من الدين كمؤسسة منتجة للقيم والمعايير وللسرمدي في خدمة السياسة، التي هي فن الممكن واللحظي والمصلحي الضيق. قد تستفيد السياسة في تقاطعات معينة من الدين ولكن الدين بحكم قدسيته يكفي أن يتعرض إلى التوظيف حتى نسيء إليه.
ولنا في المثال الإيراني كل التأكيدات.

التعليقات