مصر الكبرى
كيف ظهر السلفيون في مصر
منذ ثمانينات القرن الماضي واجه الشباب في مصر صعوبات معيشية كبيرة, خاصة في ما يتعلق بالبطالة وإنخفاض مستوى الدخل. وبينما بلغ الشباب تحت سن 25 حوالي 65 % من تعداد السكان في مصر, لم تتح لهم فرصة التعبير عن أنفسهم بطريقة ديموقراطية تساعد في التعرف على مشاكلهم ومحاولة إيجاد حلول لها. وفي ظل سيطرة النظام الشمولي, لم يجد شباب مصر وسيلة للشكوى عن طريق الأحزاب السياسية المحددة نشاطاتها أو منظمات المجتمع المدني العاجزة عن العمل, فأصبحوا في حالة من اليأس يبحثون عن خلاص سماوي لمشاكلهم التي لا تحل. في هذه الظروف وجدت الدعوة السلفية في مصر أرضا خصبة للإنتشار بسرعة كبيرة, دون أن يعرف المجتمع المصري عنها شيئا.  
  يرجع السبب الرئيسي للمشاكل الإقتصادية والاجتماعية التي واجهتها مصر مؤخرا, إلى الزيادة السريعة في عدد السكان. فمع الإنفجار السكاني الذي رفع تعداد السكان من 17 مليون في خمسينات القرن الماضي, إلى حوالي 90 مليون في الوقت الحاضر. ورغم تزايد تعداد السكان بهذا المعدل الكبير, لم تول الدولة اهتماما كافيا بمشروعات تنظيم الأسرة, وكان المصريون يمتنعون عن تناول حبوب منع الحمل التي تقدمها لهم المعونة الأمريكية منذ حوالي ثلاثين عاما, اعتقادا منهم بوجود مؤامرة أمريكية لإضعاف الشعب المصري, وكانوا يستخدمونها في غذاء الدجاج  حتى يزيد وزنه.
   ومع أن مصر لديها رقعة كبيرة من الأرض تبلغ مساحتها 238 مليون فدان, فإن الغالبية العظمى من هذه الأرض صحرواية غير مزروعة وغير مأهولة بالسكان, ولا تزيد مساحة المنطقة المزروعة والمسكونة على 8.9  مليون فدان تتمثل في وادي النيل – بنسبة 4 % من المساحة الإجكالية – أي الشريط الضيق الواقع على جانبي مجرى نهر النيل وأرض الدلتا. وفي ذات الوقت الذي تتحول فيه أجزاء كبيرة من الأرض الخصبة إلى مناطق سكنية لإستيعاب الزيادة المستمرة من السكان, أدى تغير عوامل الطبيعة إلى نقصان مساحة الأرض الزراعية في مصر بشكل منتطم. ورغم المحاولات المتعددة لزيادة رقعة الأرض المزروعة منذ مشروع مديرية التحرير في خمسينات القرن الماضي وحتى مشروع توشكي الأخير, فقد نقصت مساحة الأرض المزروعة ولم تزد.
   ورغم هذه الزيادة السكانية التي تجاوزت الأربعة أضعاف, الا أن الحكومة لم تقم ببناء عددا كافيا من المدارس والمساجد – كما لم تسمح لبناء كنائس جديدة – لمواجهة احتياجات القادمين الجدد. ولمواجهة هذا النقص, غضت الحكومة النظر عن قيام بعض الأفراد والجماعات السلفية ببناء مساكن ومعاهد خاصة, يقومون هم بإختيار دعاتهما وهيئات التدريس فيها, بعيدا عن رقابة وزارة التعليم أو مؤسسة الأزهر. في هذه الظروف ظهرت الدعوة السلفية في مصر وترعرعت بعيدا عن مؤسسات الدولة, عدا رجال الأمن والشرطة. وبدلا من محاولة نشر الثقافة المجتمعية والدينية الصحيحة بين شباب التيار السلفي, عاملتهم الشرطة بقسوة وكأنهم كائنات مريضة أو أناس ليس لهم حق في البلد الذي ولدوا فيه, مما زاد من التباعد بينهم وبين المجتمع الذي يقهرهم ولا يعترف بهم.  
   وهكذا تم بناء آلاف المساجد الخاصة خلال الربع قرن الماضي في جميع محافظات مصر, تدعو إلى أفكار التيار السلفي كما وردت في مذهب ابن تيمية التي تخالف ما عرفه المصريون من آراء شرعية, وتعطي ما تريده هي من تفسيرات للقرآن الكريم والسنة المحمدية, دون رقابة أو مناقشة من علماء الأزهر. كما أنشأ السلفيون معاهدهم الخاصة لتدريس منهجهم في الدعوة السلفية, مثل "معهد الفرقان لإعداد الدعاة" في مدينة الإسكندرية, حيث يقوم شيوخ السلفية بتدريس العلوم الشرعية للدعاة الذين يتولوا العمل في مساجد السلفيين التي انتشرت في كافة أنحاء الجمهورية المصرية.
   وتعود نشأة الدعوة السلفية في مصر إلى جماعة أنصار السنة المحمدية التي انشقت عن الجمعية الشرعية في أوائل خمسينات القرن الماضي. وبرز التيار السلفي في محيط جامعة القاهرة في هيئة جماعة طلابية سميت بالجماعة الدينية, كانت تقوم ببعض الأنشطة الثقافية والإجتماعية في محيط الطلاب. ثم ظهرت الجمعيات الدينية في أوائل تسعينات القرن الماضي, منها الجمعية الدينية بكلية الهندسة جامعة القاهرة وفي طب القصر العيني, وتم عقد أول معسكر إسلامي للطلاب في صيف العام الدراسي 1970 – 1971. بعد ذلك انتشرت هذه الجمعيات في الجامعات الأخرى وخاصة في جامعة الإسكندرية, التي أصبح لها دور بارز في بلورة المفاهيم السلفية في عقول الطلاب.
   وقد جاء في دراسة نشرتها جريدة الأهرام في أول أغسطس 2011: "تعتبر مساجد الإسكندرية في طليعة المساجد التي احتضنت الدعوة السلفية وساعدت علي انتشارها بحكم أن المدينة الساحلية الكبري هي التي شهدت بداية الدعوة السلفية الجديدة في بداية السبعينيات كما شهدت أيضا مولد فقهاء السلفية ونجومها وعلي رأسهم الدكتور محمد إسماعيل المقدم الذي يحمل عدة القاب فهو(الشيخ الأجل والعلامة الفقيه والمفتي الطبيب) ودروسه الأسبوعية احدي علامات الخريطة السلفية في الإسكندرية و يفضل المقدم مسجد أبو حنيفة بحي بولكلي وغالبا ما تكون دروسه عقب صلاة العصر يوم الإثنين من كل أسبوع. …
   (و) تبدوخريطة مساجد السلفية بالقاهرة مختلفة بعض الشيء فشيوخ السلفيين في القاهرة لا يذهبون فقط لإلقاء دروسهم في المساجد التي صارت تابعة لهم, بل أيضا صاروا جزءا من مؤسسات دينية تمارس عملها من خلال تلك المساجد وعلي رأسها مسجد التوحيد بحي شبرا الذي يعتبر بحق مؤسسة سلفية دينية إجتماعية بل وإقتصادية أيضا المسجد الذي أنشئ عام1981 يتبع الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة, والتي لا تقدم فقط دروسا وعظية لكبار الشيوخ السلفيين – مثل الشيخ سعد عرفات وأسامة سليمان ودكتور عادل العزازي – بل أيضا تقدم خدمات إجتماعية وزوجية وإعانات للعاطلين عن العمل… ويعتبر مسجد الرحمة بحي الطالبية بالهرم أقدم مساجد القاهرة احتضانا للتيار السلفي منذ قدومه من الإسكندرية في منتصف السبعينيات, ولا ينافسه سوي مسجد الجمعية الشرعية بشارع رمسيس ومسجد الفتح بحي المعادي الذي يضم أيضا مستشفي وتتبعه مدرسة إسلامية سلفية خاصة لجميع مراحل التعليم."
   وهكذا نرى أن الجماعات السلفية ترعرعت وانتشرت في جميع أنحاء البلاد, بلا رقابة أو علم من أجهزة الدولة, سوى الجهاز الأمني. ولم تكن هناك محاولة جادة لمناقشة أصحاب هذا التيار أو التعامل معهم على المستوى الثقافي أو الديني, حتى استقرت مبدئ فكر ابن تيمية في عقولهم وقلوبهم, وصاروا يمثلون خروجا على التعاليم الإسلامية المتعارف عليها في مصر كما نشرها الأزهر في بلادنا لأكثر من عشرة قرون. ويرى السلفيون أن الأزهر الشريف قد فقد دوره كمؤسسة تعليمية, ويقدمون أنفسهم بديلا في شئون التفسير والدعوة, وهم يحاولون إختراق الأزهر نفسه عن طريق بعض المتعاطفين معهم داخل المؤسسة الأزهرية.  
ورغم أن الجماعات السلفية لم تبدأ في نشر دعوتها إلا منذ ثمانينيات القرن الماضي, إلا أن نفوذها في المناطق الريفية خاصة أصبح الآن يفوق نفوذ جماعة الإخوان المسلمين. وهكذا نرى أن الفكر السلفي الجديد في مصر الحديثة, خرج بآراء تختلف عن تعاليم الأزهر التي تعدونا عليها.