مصر الكبرى
أشرف راضي يكتب : سقطات الدكتور البرادعي
لماذا يحيد المرء عن المنطق ويتخلى عن الحياد؟
أكن تقديرا خاصا للدكتور محمد البرادعي منذ أن كان مديراً عاماً للوكالة الدولية للطاقة الذرية. وأتاح لي عملي كمحرر للشؤون الخارجية، ومتابع للشأن السياسي الدولي والمحلي أن التعرف على ما كان يبذله الرجل من جهود لاتخاذ مواقف متوازنة بين أطراف منخرطة في صراعات حادة. والأهم أن عمله كان يقتضي منه السعي جاهداً لتبين الحقيقة في ظروف شديدة الالتباس وملابسات شديدة الغموض، سواء في العراق أو إيران.
كما أتاحت لي اهتماماتي الأساسية كناشط سياسي ومراقب للأوضاع السياسية في مصر أن أدقق في كل ما يقوله وأسعى لتقييمه سعياً لاستكشاف ما يتيح نزوله إلى حلبة السياسية المحلية في مصر من فرص وممكنات للتغيير. وكان تقديري منذ أن أعلن الرجل، قبل فترة قصيرة من انتهاء ولايته في الوكالة الدولية، أنه يفكر في ترشيح نفسه في انتخابات الرئاسة لمصر أنه تم الدفع بعنصرٍ جديدٍ إلى الحلبة المصرية لتحفيز عملية للإصلاح تقود إلى تغيير. ولا شك أنه بهذا الإعلان حرك المياه الراكدة في الساحة السياسية المصرية.
أعرف أن إعلان تقديري لهذا الرجل لن يضيف شيئاً لمكانته، سواء على المستوى الدولي أو على المستوى الوطني، وأعرف أيضاً أن انتقادي لبعض مواقفه لن يخصم من رصيده الكبير في قلوب كثيرين من أبناء هذا الوطن، وأنا منهم، كانوا وما زالوا يعتبرونه الأمل في وضع لا يبعث أي شيء فيه سوى على الإحباط واليأس. ولكني أعرف أيضاً أن هناك أخطاء ترتكب لا يمكن السكوت عليها ومن الواجب التنبيه إليها والإلحاح على تصحيحها وتداركها.
منذ أن أعلن الرجل أنه يفكر في الترشح للرئاسة وأنا أتابع تقريباً كل ما يصدر عنه من تصريحات، ودعوت مبكراً، قبل انتخابات مجلس الشعب في عام عام 2010، أن يستغل وضعه ومكانته لبناء حزب سياسي مدني يكون نموذجا للممارسة الديمقراطية ويكون تجسيدا للقيم التي استقرت في المواثيق الحقوقية الدولية، وأن يكون هذا الحزب منبراً لبناء توافق سياسي سعيا للوصول إلى توافق وطني عام.
والواقع لم أكن بهذا أطرح شيئاً بعيداً عما يدور في رأسه. وجاء إعلان الرجل عن تأسيس حزب سياسي متأخراً، وبعد أن استنزفت طاقته في معركة تفوق أي قدرات فردية. ولا يزال من المبكر الحكم على مصير هذا المسعى لإنشاء حزب مدني ديمقراطي، لكني لا استبشر خيراً في كثير من الوجوه التي تتصدر المشهد في حزب الدستور الذي أعلن البرادعي تأسيسه.
والحق أن الرجل يختار كلماته وتصريحاته بعناية فائقة، لكنه، وللأسف، لا يحسن اختيار فريقه. وشاهد الرجل عن قرب، وبمرارة، مدى الفساد الأخلاقي لدى كثير من أفراد النخبة "السياسية والثقافية" في مصر من خلال من تعاملوا معه. تعرَّضَ الرجل لكثير من الطعنات وخيانة الحلفاء.
إن مشكلة البرادعي الحقيقية تتمثل في أنه رمز حقيقي لكل ما يناقض أركان نظام الرئيس المخلوع، حسني مبارك، سواء ممن في الحكم أو في المعارضة. فلا أحد من القوى التي جرى تنظيمها في ظل نظام استبدادي يخضع لسيطرة محكمة من أجهزة الأمن كان يريد أن يكون لهذا الرجل دور في الحياة السياسية في مصر، غير استثناءات قليلة ممن يشغلهم الوطن وهمومه أكثر من انشغالهم بأنفسهم وبطموحاتهم الفردية. ولم يكن هذا غريب فقد كسبت دولة العسكر المعركة مع المثقفين مبكراً، حسبما تشير شهادات عدة.
لم يكن مستغرباً، أن يسارع سياسي معارض، كأيمن نور زعيم حزب الغد والذي خاض انتخابات الرئاسة في عام 2005 ضد مبارك، بإصدار تصريحات ضد البرادعي فور عودته إلى أرض الوطن بشكل نهائي. ربما كان لنور بعض العذر فقد دفع ثمناً فادحاً من حريته نتيجة تحديه مبارك، ولكن موقفه من البرادعي ربما كان ناجماً، بدرجة أكبر انشغاله بالزعامة الذي يفوق إخلاص للرسالة. وفي وضع كهذا ترتكب مثل هذه الحماقات. ولم يكن غريباً أيضا ما فعلته جماعة الإخوان المسلمين في الجمعية الوطنية للتغيير لإحباط مساعيه، واكتشف الرجل أن هناك من يسعى للمتاجرة باسمه وبيعه في سوق النخاسة السياسية.
لقد أدرك الرجل بحسه السليم أن الأمل منعقد على جيل الشباب، وهو يخاطبهم دائما في حواراته وأحاديثه ويحمل لهم آمالاً ويعلق عليهم آمالاً أكبر. لكن لم تفارقه بعد عدم قدرته على تمييز البشر. ربما كان هذا مصدر سلامة نواياه وصدق موقفه واستقامته السياسية، وهي أمور يندر أن تتوافر في شخص واحد في ظروف كتلك التي نعيشها في مصر، حيث السياسة مصادرة وأجهزة الأمن تمد أياديها في كل شأن عام. كان عليه أن يعلم أن من يقابل العالم بقلب دافئ، عليه أيضا أن يتعامل معه بعقل مفتوح. وأن كون الثقة وحسن النية أساس في التعاملات لا ينبغي أن تبرر التخلي عن الحذر. اعتقد أن هذه أمور لا تخفى على فطنة رجل برجاحة عقل كعقل الدكتور البرادعي ولكن كثيراً ما تكون الأقنعة محكمة ومتعددة المستويات.
أشعر أحياناً عند متابعة حديث أو تصريح للدكتور البرادعي أنه يتطلع إلى واقع سياسي مغاير للواقع الراهن في مصر. وهذا حلم مشروع بلا شك، ولكن في عالم السياسية فإن العبرة إنما تكون بالواقع وتعقيداته. حتى من يرفضون الواقع ويتطلعون إلى تغييره يتعين عليهم أن ينطلقوا من الواقع الذي يريدون تغييره. والمشكلة أن الدكتور البرادعي عندما يقرر الانتقال من عالم المثل والحلم إلى الواقع فإنه يقع في خطأ الرهان على الأشخاص، ولا يلتفت كثيراً إلى أن الأفكار والقيم هي ما ينبغي الرهان عليه. ويتخذ نتيجة لذلك كثيرا من المواقف الخاطئة وغير الموفقة.
لقد نجح الدكتور البرادعي في أن يسير في حقل السياسة المصرية المليء بالشراك الخداعية واستطاع أن يتفادى كثيراً من الألغام، لا لشيء إلا لاستقامته السياسية وحذره المفرط، واستطاع أن يحافظ على موقفه ويقف على مسافة واحدة من مختلف الأطراف السياسية، رغم ميوله الواضحة في اتجاه المدنية والقيم العالمية والليبرالية، واستطاع أن يطرح عدداً من المبادرات التي تفتح آفاقاً للمستقبل، ونال احترام خصومه قبل حلفائه. ومثل طوال عام ونصف العام، رقماً صعباً في المعادلة السياسية المصرية، رغم افتقاره لبناء مؤسسي أو تنظيمي يدعمه. وضيَّع هذا الوضع فرصاً كثيرة لتطوير النظام السياسي.
أطلق البرادعي تصريحاً مدوياً قبل الجولة الثانية لانتخابات الرئاسة لدى عودته إلى مصر، حذر فيه من مخاطر إجراء الانتخابات في مجتمع منقسم، وأعلن انحيازه لمعسكر المقاطعين. وكشف بهذا التصريح عن تقديره للموقف السياسي الراهن في مصر، وهو موقف يتفق معه جل المراقبين للأوضاع في مصر. وأتاح الرجل، بإعلانه المقاطعة، لنفسه مساحة لأن يكون وسيطاً يمكنه التدخل لحل أي أزمة سياسية قد تنشأ نتيجة للانتخابات.
ولكنه سرعان ما تراجع عن هذا الموقف في حواره مع الإعلامية لميس الحديدي على قناة سي.بي.سي. ولم يقف على مسافة واحدة من مرشحي الرئاسة في الجولة الثانية، فبينما أعلن رفضه مقابلة المرشح المستقل أحمد شفيق لرمزه وليس لشخصه، أعلن استعداده لمقابلة محمد مرسي، مرشح الإخوان المسلمين، إذا طلب الأخير مقابلته، بينما حافظ على موقفه المنتقد والمعارض للمجلس الأعلى للقوات المسلحة وما يصدر عنه.
لا أعرف سبباً لهذا التحول السريع في موقفه، لكن تقديري أن للأمر صلة بالمقابلات السياسية التي أجراها، وخصوصاً المقابلة مع أعضاء المكتب السياسي لحركة شباب 6 أبريل، الذي تم عشية المقابلة مع سي.بي.سي. وهذا التحول في حد ذاته كفيل بأن يقوض أي أساس لأي جهد لوساطة تحقق مصالحة بين الأطراف. لكنه لم يكتف بذلك وخطا خطوة أخرى في الانحياز لأحد الطرفين بلغت ذروتها في تصريحاته لشبكة سي.إن.إن التلفزيونية الأمريكية يوم السبت.
قال البرادعي إنه على اتصال بقيادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة ومع سائر الأطراف السياسية بما فيها جماعة الإخوان المسلمين وأجهزة المخابرات للحد من تأزم الوضع السياسي.
لا خلاف في أن يقوم بهذا المسعى المحمود الذي يستقيم مع تقييمه للوضع في مصر، حيث حذر أكثر من مرة من الانفجار ، لكن أن يقول إنه أبلغ المجلس العسكري والسلطات من أنه في حالة إعلان فوز مرسي "فمن غير المرجح أن يلجأ أنصار شفيق إلى العنف في الشارع" بينما يحذر من أن إعلان فوز شفيق فإن البلاد ستشهد مستويات كبيرة لانعدام الاستقرار والعنف وستكون انتفاضة عارمة"، فإنه بذلك إنما يسعى للتأثير وتوجيه إعلان نتيجة الانتخابات لصالح مرشح وعلى حساب المرشح الآخر.
كان من الأولى أن يتوجه للتصويت للمرشح الذي يفضله، أو أن يبقى على موقفه من المرشحين، وكان من الأجدر أن يعلن، مثلما أعلن بعض قادة الإخوان المسلمين، احترامه للنتيجة التي تعلنها اللجنة، خصوصا أن نتائج الانتخابات أيدت توقعاته بالنسبة لانقسام المجتمع. ووفقاً للبيانات التي أعلنتها حملة مرشح الإخوان المسلمين فإن نتائج التصويت متقاربة، مما يكشف انقساماً في صفوف من شاركوا في التصويت، وهم أقل من نصف عدد الناخبين. لكن أن يغض الطرف عن الابتزاز الواضح الذي تمارسه حملة مرسي، منذ الساعات الأولى لبدء الفرز، وإصرارهم على أن إما أن يعلن فوز مرشحهم أو يتهمون اللجنة العليا للانتخابات والمجلس الأعلى بتزوير النتيجة أو العبث بها، فهذا أمر لا يقبل منه كزعيم سياسي، ويقلل من الثقة فيه كزعيم قادر على إدارة شؤون دولة.
لنتخيل مثلاً أن البرادعي هو الرئيس وأنه يتعرض لعملية ابتزاز كالتي يشاهدها المصريون والعالم من قبل جماعة منظمة هددت وتهدد باللجوء إلى العنف وتستغل مشاعر شباب ثائر لتحقيق مكسب سياسي، هل كان سيذعن ويترك لها السلطة؟ ولو فكر البرادعي قليلاً ووضع نفسه موضع المجلس الأعلى، هل كان سيقبل هذا الطعن في حياده من نفس القوى التي أشادت بالانتخابات التي أشرف عليها المجلس ذاته سواء في الاستفتاء على التعديلات الدستورية، أو في انتخابات مجلس الشعب.
ولو عاد البرادعي بذاكرته للوراء قليلاً أو كان هناك من فريقه من يرتب له أوراق بشكل دقيق، لعرف أن هذا موقف مبيت لدى جماعة الإخوان التي أبدت شكوكها وأثارت الاتهامات بأن انتخابات الرئاسة سيجري تزويرها مع بروز كل مرشح يمكن أن يهدد فرص مرشحها الأساسي أو الاحتياطي. وأن تصريحاتهم أوجدت أزمة ثقة بينهم وبين المجلس العسكري وكذلك بينهم وبين المحكمة الدستورية العليا التي حاولوا تقليص صلاحياتها ودورها. ولو كانت لديه معرفة تكفي بأساليب الإخوان الانتخابية لعرف أن هذا ليس جديداً عليهم.
أخشى أن وقوف البرادعي بهذا الشكل وراء مرشح الإخوان المسلمين سيفقده تأييد القوى السياسية المدنية، وأخشى أن يكون بموقفه هذا كرر ذات الخطأ الذي ارتكبه الدكتور عبد الرزاق السنهوري، بعد عام 1952، حيث دفعته كراهيته الشخصية لزعيم الأمة مصطفى النحاس إلى صياغة ترتيبات من خلال مشاوراته مع مجلس قيادة الثورة لإبعاده عن الساحة السياسية، فساهم بموقفه هذا في تثبيت من رتبوا للاعتداء عليه بالأحذية في مجلس الدولة في السلطة.
بالطبع، لا أتمنى للدكتور البرادعي مصيراً كهذا ولا أقبل، ولا يقبل معي كثيرون أن يهان مصري بعد كل هذه التضحيات التي قدمها المصريون في ثورة 25 يناير، ولا اعتقد أن الزمان سيعود لنرى ذات المشاهد بعد كل هذه العقود. وحتى لو جرى تسليم البلاد للإخوان المسلمين أو سقطت كاملة في قبضة العسكر، ستظل انتفاضة يناير المدنية الديمقراطية نقطة فاصلة في تاريخ المصريون وأن من يتجاهل حقيقة هذا التحول سيكون من الخاسرين.
ولم أكن أرغب في أن يقع الدكتور البرادعي في مثل هذه السقطات أو الهنات، لكني أتذكر كلمات الفيلسوف العظيم كارل بوبر في تقديم كتابه "المجتمع المفتوح وأعداؤه" فإن أخطاء الشخصيات العظيمة تكون عظيمة مثلهم. وبقدر ما أكن للدكتور البرادعي من تقدير واحترام بقدر ما يملي علي احترامي لواجبي ومسؤوليتي وحرصي على الحق والحقيقة أم أكتب هذه الكلمات علها تنفع.