كتاب 11
مقترحات لدراسة العنف السياسي
دراسة العنف كظاهرة اجتماعية برنامج بحث مفتوح، نحتاج إلى مواصلة العمل فيه، كي نزداد خبرة بطبيعته، وكي نستطيع تشخيص العوامل الثابتة والمتغيرة التي تحركه أو تحدد اتجاهاته أو حجمه.
هناك بالتأكيد بواعث آيديولوجية (دينية خصوصًا) وراء بعض أشكال العنف. لكن هذا عامل واحد فحسب. ولا يصح اعتباره علة تامة كما يقول أهل المنطق. الإرهاب – كما عرضنا في مقال الأسبوع الماضي – ظاهرة مركبة، تتشكل بتأثير عوامل كثيرة، وتتطور في مسارات مختلفة، ثم تنتهي إلى تجسيد واحد، نراه في شكل اغتيالات أو تفجيرات أو عمليات حربية، تبلغ ذروتها في احتلال مدن بأكملها، كما جرى في سوريا والعراق وليبيا.
دراسة الظاهرة تستلزم من حيث المبدأ التخلي عن أي حكم مسبق أو رغبة في التبرئة أو التجريم. نحن بصدد مشكلة مزمنة تواجه جميع البلدان، وتخلف خسائر كارثية في الأنفس والعمران. ولهذا ينبغي التركيز على تحليل الظاهرة طمعًا في تفكيكها ومعالجتها، وليس البحث عن شماعة نعلق عليها عباءة الجرم. لست متأكدًا من إمكانية اجتثاث العنف في أي مجتمع. لكننا نستطيع الخلاص من ظاهرة الإرهاب السياسي التي يمكن أن تنبعث بين حين وآخر، بالترافق مع ما يحدث من انكسارات أو توترات داخل المجتمع أو في محيطه.
الخطوة الأولى لدراسة الظاهرة الاجتماعية هي وصفها السطحي وتحديد علاقتها بالعوامل المحركة: هل هي منظومة أفعال مستقلة أم هي انعكاس لأزمات أخرى نشطة في المحيط الاجتماعي، أزمات اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو غيرها. هذا تمهيد ضروري لتمييز العنف السياسي في البلدان المستقرة عن نظيرتها المحتلة، أو تلك التي تشهد حروبًا أهلية أو انقسامات حادة. كما أن فرضية كون العنف منبعثًا عن أزمات بعينها (كصراع الأجيال أو تأزم الهوية مثلاً) ستوجهنا إلى تفكيك البواعث والأسباب في المقام الأول، وربما نفكر في ممارسي العنف كضحايا يجب دعمهم ماديًا ونفسيًا للتحرر من تأثير تلك البواعث، بدل التشدد في معاقبتهم.
وفي هذا السياق أيضًا ينبغي التمييز بين العنف المنظم ونظيره العشوائي أو الفردي. في الحالة الأولى نركز على «المنظمة»، بينما نركز في الحالة الثانية على البيئة الاجتماعية الحاضنة.
الخطوة التالية هي وضع كل العوامل المحتملة في مستوى واحد من حيث القيمة. هذا يشمل بطبيعة الحال العامل الآيديولوجي البحت، وأزمات المعيشة، والعوامل المرتبطة باضطراب الشخصية، والجمود الثقافي وعجز المجتمع عن استيعاب الأجيال الجديدة المختلفة ثقافيًا وروحيًا، وتأزم الهوية الجمعية، والجمود السياسي وضيق المجال العام، وأخيرًا دور المنظمات التي تتبنى العنف ومقدار ظهورها العلني على وجه الخصوص في النشاطات الاجتماعية الاعتيادية.
من المهم في المرحلة التالية عزل المؤثرات الخاملة. فبعض العوامل السابقة قد تكون فعالة جدًا في مجتمعات بعينها، بينما تكون ضئيلة التأثير في مجتمعات أخرى. في خط موازٍ ينبغي التحقق من موقع كل عامل ضمن السياق الزمني لتطور الظاهرة ككل، أو تبلور «إرادة الفعل الإرهابي» عند الأفراد والمجموعات الصغيرة.
فيما يخص النقطة الأخيرة، نعلم أن بعض الإرهابيين اختاروا منذ اللحظة الأولى الانضمام لجماعة إرهابية عن وعي مسبق بطبيعتها وأغراضها ودورهم فيها. بينما «انزلق» آخرون دون وعي، ثم تورطوا. في الحالة الثانية نجد أن العامل الآيديولوجي (الدين مثلاً) يلعب دورًا متأخرًا، وقد ينحصر في تبرير العنف وليس في خلق إرادته.