كتاب 11
تركي الفيصل وإسقاط النظام في إيران
كتبت يوم أمس السبت ٩ يوليو ٢٠١٦م، تغريدة بصيغة سؤال في تويتر، بعد مشاهدة خطاب تركي الفيصل في مؤتمر المعارضة الإيرانية في باريس. ينص السؤال: “هل حضور الأمير تركي الفيصل مؤتمر المعارضة الإيرانية في باريس له نتائج سلبية أم إيجابية على السياسة الخارجية السعودية والصراع الإقليمي؟” فمشاركة شخصية بحجم ووزن تركي الفيصل في مؤتمر معارضة سياسية لدولة خصم، هو تغيير في قواعد لعبة المواجهة بين السعودية وإيران، ويجب النظر إلى نتائجها وإنعكاساتها من ثلاثة زوايا: (١) وضع دولي مرتبك وغامض يسود العالم من الناحية الإستراتيجية والجيوسياسية والإقتصادية؛ (٢) منطقة محتقنة كالشرق الأوسط يخيم عليها أجواء الحرب الباردة مع بؤر إضطرابات متعددة؛ (٣) وضع محلي سعودي يكاد يكون على مفترق طرق بين عدة مسارات: السياسي والأمني والإقتصادي والتنموي والإجتماعي والمجتمعي والثقافي.
أولاً: الأمير تركي الفيصل متحفظ جداً بحكم تنشئته، وبحكم طبيعة عمله السابق، أيضاً، كرئيس سابق للإستخبارات السعودية، ويملك كم جيد من المعلومات لحقبة هامة في العلاقات الدولية، كما يملك قدر لا بأس به من المعرفة التاريخية والسياسية. وبالتالي فهو يعلم علم اليقين أن من أهم مباديء القانون الدولي هو “عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى” Non-Intervention، فهل تعتبر مشاركته في مؤتمر للمعارضة الإيرانية تدخلاً في شئون إيران الداخلية، ودعم خارجي سعودي مباشر ومعلن لمعارضة محلية أجنبية؟ رب قائل يقول: أن “الجزاء من جنس العمل”، إيران تتدخل في الشؤون الداخلية وتدعم الأقليات والمعارضات في الدول العربية، ولذا لا ضير من أن تتدخل السعودية كرد على تدخلات إيران ودعمها للأقليات والمعارضات الإيرانية. حسناً، هنا يتساءل البعض: من الذي فوّض تركي الفيصل أو السعودية للتدخل نيابة عن الشعوب والدول الأخرى؟
ثانياً: عندما يعلن شخصية بحجم ووزن ومكانة الأمير تركي الفيصل أنه “سيُسقط النظام في إيران”، ألا يشكل ذلك إستفزازاً وتعدياً وتحدياً سافراً لقواعد القانون الدولي وبمثابة إعلان حرب؟ هناك من يرد على ذلك بأن عدد من الشخصيات الإيرانية فعلت الشيء ذاته، بأسلوب تعدد أو تبادل الأدوار الذي تنتهجه القيادة الإيرانية في علاقاتها الدولية، وقد يرى تركي الفيصل او السعودية بأن المعاملة بالمثل هو عُرف دولي تنتجه وتمارسه الدول في علاقاتها مع بعضها البعض. لكن يبقى تساؤل حائر: هل التصريح بإسقاط نظام سياسي وإعلانه في مؤتمر دولي أمام الملأ يملك الجديّة المطلوبة، أم أن الأمر تغيير في قواعد لعبة المواجهة، ولا يعدو كونه إمتداداً لسياسة عض الأصابع، أو رسائل مشفرة بين خصمين سياسيين؟ الأهم، هل تصريح السعودية علناً بتغيير الأنظمة “طوعاً أو كرهاً” أو ” عاجلاً وليس آجلاً ” سيثير حفيظة الدول الحليفة والصديقة ويخيفها ويزيد من توجسها من السياسة السعودية؟
ثالثاً: ظهور تركي الفيصل في تظاهرة عامة، ومؤتمر معارضة ضد دولة خصم للسعودية كإيران، يطرح العديد من التوجس والخوف والتساؤل: هل بات الوضع في اليمن، والبحرين، والعراق، وسوريا، يميل بإتجاه المصالح الإيرانية مما يضطر السعودية إلى تغيير قواعد لعبة المواجهة والإنتقال إلى العمق الإيراني، ودعم الأقليات والإنتفاضات الشعبية والمعارضة السياسية الإيرانية؟ أم أن هناك معلومات أكيدة بأن “الثورة الخمينية” أصبحت أقرب إلى الزوال وبحاجة إلى دعم إقليمي قوي للإجهاز على ما تبقى من أثر وتأثير لتلك الثورة التي يراها مراقبون أنها إستنفدت مقومات النجاح وبدأت خطوات التدمير الذاتي مع توقيع الإتفاق النووي؟ والسؤال الأخطر: هل السعودية الدولة الأصلح أو الأنسب لتبني ودعم سقوط النظام الإيراني؟ وهل مؤتمر المعارضة الإيرانية الذي كان ضيف الشرف فيه الأمير السعودي تركي الفيصل من القوة والتمكن بحيث يسقط النظام في إيران بشكل يمنع الفوضى الداخلية ولا يزيد من تأزيم الموقف الجيوسياسي؟
رابعاً: يرى البعض في نشاطات وتحركات تركي الفيصل جزءاً من السياسة الخارجية السعودية في الظل، أو كما يسميها مراقب “إتجاهات السياسة الخارجية السعودية المستقبلية الغير مرئيّة”. فلقاءات تركي الفيصل المتعددة مع مسئولين إسرائيليين في الماضي القريب، تنم عن توجه مستقبلي معيّن، فهل ما يحدث اليوم من تصعيد مع إيران له علاقة بإسرائيل وتوجهاتها ومخططاتها، خصوصا والجميع يعلم أن الخصومة مع إيران تشكل نقطة إلتقاء مشتركة بين السعودية وإسرائيل. إيران تدعم المقاومة ضد إسرائيل، وتؤيد حماس وحزب الله اللبناني أخطر عدو ضد إسرائيل. كما أن إسرائيل تتبرم من الإستعداء العلني لها في السياسة الإيرانية، ناهيك عن البرنامج الإيراني النووي، ومنظومة الصواريخ البالستية الإيرانية، ومؤخراً ذلك الإتفاق النووي الذي أزال دواعي الشقاق بين الغرب والولايات المتحدة مع إيران. فما مدى نقاط الإلتقاء بين السعودية وإسرائيل من منظور تركي الفيصل؟
خامساً: شارك تركي الفيصل في مؤتمر المعارضة الإيرانية Freeiran المنعقد في باريس، والذي يأتي قبل شهرين تقريباً من موسم الحج الذي ستتغيب عنه إيران في هذا العام بحكم رفضها التوقيع على الإتفاقية المنظمة للحجاج الإيرانيين. فهل سنشهد موسم حج خال من القلاقل، أم أن إيران ستحاول زعزعة أمن الحج ولو بوسائل وأساليب غير مباشرة؟ فلطالما نظرت إيران منذ قيام الثورة الإسلامية (الخمينية) في إيران إلى الحج من منظور سياسي مغاير تماماً لما تريد له السعودية في أن يكون تجمع ديني “لا رفث ولا فسوق ولا جدال” فيه. كما أن هذه الشعيرة تشكل النقطة الأقوى في قوة السعودية الناعمة، وتشكل القوة الأضعف والحساسة، في نفس الوقت وبنفس القدر. من ناحية أخرى، هل ستؤدي مشاركة تركي الفيصل العلنية في مؤتمر المعارضة الإيرانية ودعمه المباشر لاسقاط النظام الإيراني إلى مزيد من الشرعية والتدخل الإيراني في شؤون دول الجوار الخليجي ودعم المعارضات لإسقاط الأنظمة؟
سادساً: شاهدنا مؤتمر المعارضة الإيرانية في باريس، وصفقت وسائل الإعلام السعودية لهذا الحدث، وحظي تركي الفيصل بإستقبال وتصفيق جماهيري مدوي داخل قاعة المؤتمر، وألقى خطاب تعبويا وشعبوياً. حسناً، لكن مجموعة من الأسئلة تفرض نفسها: ألا يستطيع النظام الإيراني فعل الشيء ذاته، واستخدام الحجج والجدل ذاته ضد السعودية، الذي استخدمه تركي الفيصل ضد النظام الإيراني (الخميني)؟ ماهو حجم ووزن وتأثير هذه المعارضة في الداخل الإيراني؟ فكل نظام سياسي في العالم له بالضرورة معارضة يفرضها منطق السلطة. فأي سلطة دينية أو سياسية أو إقتصادية أو إجتماعية توّلد من ذاتها معارضة، لكن ماحجم قوة وتأثير وتنظيم تلك المعارضة على بنية ومتانة النظام الإيراني؟ من الناحية السياسية، يوجد كيانات تعترف بهذا المنطق السياسي لوجود معارضة، وتضعه في حسبانها وتقبله كقاعدة الحتمية والضرورة، ولذا يصبح تأثير المعارضة مهما تعالى صوتها هامشياً وطبيعياً ومقبولاً. فهل إيران ممتعضة من وجود معارضة، وهل هذه المعارضة ومؤتمرها في باريس يشكل تأثيراً على السياسة الإيرانية أو صلابة وتماسك النظام في طهران؟
سابعاً: لو تركنا رغبات إسرائيل وأهدافها؛ أو فرضيات الإستخبارات المركزية الأمريكية التي لا يمكن التنبؤ بمقاصدها وأهدافها، ولم تؤدي في الماضي إلا إلى توريط الدول والأنظمة حسب رأي عدد من المراقبين؛ أو لندع جانباً التفكير بالتمني الذي أعلن عنه تركي الفيصل أن النظام الإيراني سيسقط “عاجلاً وليس آجلاً”. نسأل: هل العالم اليوم والقوى العظمى، والولايات المتحدة تحديداً، ستقبل بسقوط نظام محوري في الشرق الأوسط؟ هل ستتحمل الولايات المتحدة تبعة خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي وما نجم وينجم عنه من خسائر سياسية وإقتصادية، بالإضافة إلى تبعة سقوط النظام الإيراني الذي عملت الإدارات الأمريكية على إحتوائه خلال ثلاثة عقود؟ ماهي استراتيجية الإدارة الأمريكية الجديدة التي ستحل في البيت الأبيض بعد أشهر؟ هل ستتحمل الولايات المتحدة، أو روسيا، أو الصين، إهتزاز سياسي في ايران ووسط أسيا؟ هل تستطيع دول الخليج الهشة سياسياً وإقتصادياً وإجتماعياً أن تتحمل فوضى سياسية في إيران المجاورة وإنعكاساتها على الداخل الخليجي؟ أجوبة كل هذه الأسئلة وغيرها لدى تركي الفيصل الذي يملك المعلومة، ونحن نحاول صنع طريق له لتوظيفها كحزمة واحدة.
ثامناً، يبقى لنا مداخلة في إنعكاسات مشاركة تركي الفيصل في مؤتمر المعارضة الإيرانية أو تغيير قواعد لعبة المواجهة مع إيران، على المستوى الداخلي السعودي. هل تغيير قواعد لعبة المواجهة مع إيران يتماشى ويتناسب مع توجه السعودية نحو الإقتصاد والتنمية الداخلية والإنطلاق نحو تحقيق رؤية 2030 وما تتطلبه من هدوء وإستقرار سياسي ليس محلياً فقط، بل إقليمياً ودولياً؟ هل مناكفة إيران سياسياً وتغيير قواعد لعبة المواجهة سيؤدي إلى مزيد من المناكفة الإيرانية للسعودية في المجال الإقتصادي والنفط والغاز تحديداً؟ هل سنشهد مزيداً من الحملات الإعلامية الغربية ضد السعودية مدفوعة بالتعاطف الإعلامي الدولي مع إيران نتيجة الإتفاق النووي؟ فبنظرة عاجلة على الرؤية نجد أنها تعتمد بشكل كبير على العامل والعنصر الخارجي، في المرتكزات الثلاث للرؤية، مما يعني مسار جديد في السياسة الخارجية السعودية، أو بمعنى أخر تخفيف الإنفعال السياسي الخارجي مقابل مزيد من الإنفعال السياسي الداخلي. إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال، الجمع بين الأمرين، لأن ذلك سيؤدي إلى ما يسمى “الإجهاد السياسي” Political Fatigue
تاسعاً: تصدير الثورات أو الأيديولوجيات ديدن معظم الدول. كل الدول، تقريباً، تعمل على تصدير نموذجها بشكل أو بآخر. ففي الستينات تبرمت السعودية من عبدالناصر وتصديره للثورة المصرية ونجاح المد الناصري الذي أدى الى موجة من سقوط الملكيات في العراق واليمن وليبيا، مما منح عبد الناصر الزعامة للقومية العربية. إختطت السعودية حينذاك منهج التضامن الإسلامي مستفيدة ومعتمدة على وجود الحرمين الشريفين، وبعد أقل من عقدين ظهرت الثورة الإسلامية في إيران التي تنتهج تصدير ثورتها الإسلامية وأيديولوجيتها ونصرة الأقليات الشيعية في الدول ذات الأغلبية السنية، وبدت إيران وكأنها منافس للسعودية في شأن ترى السعودية أنها الأحق والأجدر به وزعيمة العالم الإسلامي من دون منازع. جاء الربيع العربي، وسقطت أنظمة، ونشأت أخرى، وتحوّل خط القوة أو تحرك نحو الخليج، ثم بدأ الصراع نحو زعامة المنطقة والعالمين العربي والإسلامي. السؤال: هل تستحق الزعامة المنشودة لكل من السعودية وإيران كل هذا الجهد والوقت والعناء والتضحيات على كافة المستويات؟ سؤال ساذج لكنه ضروري ومطلوب.
أخيراً، بالعودة إلى سؤالنا المحوري: “هل حضور الأمير تركي الفيصل مؤتمر المعارضة الإيرانية في باريس له نتائج سلبية أم إيجابية على السياسة الخارجية السعودية والصراع الإقليمي؟” نقول، بأن تركي الفيصل أقدر على تحديد تلك النتائج هل هي سلبية أم إيجابية. كما نجزم بأن تركي الفيصل لديه الكثير من الأجوبة على التساؤلات التي طرحناها وكثير غيرها لم نطرحها لحساسيتها، لكن كثير من الفلاسفة نحتوا تعريفاً مبسطاً للحكمة فقالوا: هي “الحذر”. يبقى السؤال الأهم نوجهه للأمير تركي الفيصل: هل السعودية قادرة على تحمل المكر السياسي الإيراني في الرد على تغيير قواعد لعبة المواجهة والدعم العلني للمعارضات السياسية؟ ختاماً، نقول من ناحية، أن من أهم قواعد الإستراتيجية السياسية للدول، هو تقليل الخصوم والأعداء. من ناحية أخرى نجادل، أن إسرائيل كانت ولازالت العدو الأوحد للسعوديين والعرب والمسلمين، ومحاولة ترقية إيران من خصم إلى عدو، والقيام بعملية إستبدال بين إيران وبين إسرائيل، هو أمر محفوف بكثير من المخاطر. تساؤل أخير: هل سنشهد حقيبة الخارجية السعودية يحملها الأمير تركي الفيصل في الحقبة القريبة؟ حفظ الله الوطن.