كتاب 11
وثيقة المدينة: الإرهاب القادم مذهل
أولاً: نجادل بأن التفجيرات الإرهابية المتعاقبة والمتزامنة التي ضربت السعودية في أواخر ليالي رمضان وأهمها ما حدث في المدينة المنورة هو عمل استخباراتي بإمتياز، وفي ظننا انه بداية للعديد من الأعمال بهدف تفتيت وتفكيك السعودية ضمن مسلسل بدأ بغزو وإحتلال العراق العام ٢٠٠٣م ومن ثم تفكيكه؛ مروراً بمجموعة دول “الربيع العربي” تونس، ومصر، وليبيا، واليمن، والبحرين التي إهتزت مجتمعاتها وبالتالي دولها وأنظمتها؛ ثم توقف القطار في سوريا التي باتت بؤرة لتنظيم الدولة الإسلامية؛ وصولاً إلى السعودية التي تشكل جوهر المراد وجوهرة الإستراتيجية لتفكيك الشرق الأوسط وإعادة تشكيله.
ثانياً: الإرهاب عنف سياسي بحت لا يرتبط بدين أو دولة، لكنه أضحى وسيلة من وسائل العلاقات الدولية بديلة للحروب التقليدية مع بداية القرن الجديد. إذ يمكن عن طريق الإرهاب تحقيق نتائج أفضل من النتائج التي تحققها الحروب التقليدية، وأهم مافي ذلك هو تفكيك النسيج الإجتماعي من ناحية، وتفكيك العلاقة بين الدولة والمجتمع، من ناحية أخرى. المثير، أن الإرهاب (العنف السياسي) هو وسيلة ونتيجة في ذات الوقت مع علاقة تبادلية غاية في التعقيد. الإرهاب وسيلة لإضعاف الدولة (الكيان السياسي)، كما أن الإرهاب نتيجة لضعف وهشاشة الدولة وفشلها.
ثالثاً: يمكن لنا أن نضع تعريف للإرهاب بأنه: وسيلة، بشرية، لفرد أو مجموعة، ترفض التهميش، وتستخدم العنف، المسلح، لأغراض سياسية، تستهدف الدولة/الدول، بقصد الإعتراف. إذا تعمقنا في العناصر أو المصطلحات السابقة يمكن لنا أن نعرّف حقيقة الإرهاب، وعندها يمكن لنا تصوّر حجم الخطر من ناحية، وحجم الجهد الذي ينبغي القيام به للقضاء على الإرهاب، وليس الإرهابيين، من ناحية أخرى. مما يعني أن الإرهاب وسيلة سياسية موجهة ضد وسيلة سياسية أخرى. فالدولة الوطنية الحديثة هي إطار سياسي (وسيلة) لإدارة المجتمعات، تم إختراعه في العام ١٦٤٨م بدلاً من الإطار الديني المعمول به حينذاك. كما تم تطعيمه بمصل ضمن مصطلح ديني “لاهوتي” يطلق عليه “السيادة” Sovereignty لمنحه شيء من الحصانة.
رابعاً: كل الدول تقريباً تعلن بسذاجة وغباء سياسي أنها تحارب الإرهاب، لكن حقيقة الأمر أنها ليست كذلك. وهذا يقودنا إلى أمرين: (١) كلها، تقريباً، أو لنقل معظمها، تحارب وتلاحق الإرهابيين جزئياً أو إنتقائياً؛ (٢) كلها، تقريباً، أو لنقل معظمها، تستفيد وتستخدم الأرهاب لتحقيق مئارب سياسية، أدناها الإتهامات المضادة المتبادلة والتصنيف مع دول وكيانات أخرى. ولذا، بات الإرهاب مصطلح يضاف إلى قائمة طويلة من مصطلحات التصنيف الدولي مثل حقوق الإنسان، وإنتهاك الحريات الفردية، والبيئة، والتمييز، والعنصرية، وكلها وسائل وصم وتصنيف يتم على أساسها إدارة والتحكم في العلاقات الدولية.
خامساً: الإرهاب الذي إتخذ من الدين الإسلامي الثوب الذي يرتديه والشعارات التي يرددها والقناع الذي “يتبرقع” خلفه، والأيديولوجية المحركة له منذ الثمانينات بدءاً بالقاعدة وإنتهاء بداعش وأخواتها، هو طاريء على تاريخ العنف السياسي، لكنه يدلل على الأهداف السياسية المراد تحقيقها وهو ضرب وتفتيت وتفكيك الدول ذات التوجه الديني الإسلامي، وهذا يصل بنا إلى دول الشرق الأوسط بمختلف أوصافه: القديم؛ أو الجديد؛ أو الكبير.
سادساً: الإرهاب ( العنف السياسي) سيضرب كافة دول الشرق الأوسط من دون إستثناء، وسيقضي على الكيانات السياسية القائمة التي بقيت هشة وإستطابت تلك الهشاشة السياسية منذ تكوينها قبل (١٠٠) عام. كافة الكيانات السياسية في هذه المنطقة من العالم فشلت في بناء دول ذات قيمة سياسية تمكنها من الصمود أمام “التئاكل السياسي” Political Erosion الذي ينخرها من الداخل بهدوء. إستطابت تلك الكيانات الشرق أوسطية الحكم والسلطة وأغرقت شعوبها ومجتمعاتها في تفاهات وترّاهات يطلق عليها تجملاً تنمية، فتفتت مجتمعاتها وفقدت قيمتها وتنامت السلطة (القوة) لتلك الكيانات حتى أصيبت بالعمى، ويقول مايكل هوارد: “عندما تصاب الدول بالعمى يصبح كل شيء مفاجئاً”.
سابعاً: فشلت “الدولة الوطنية” العربية لعدة أسباب من أهمها: فساد الأنظمة الحاكمة؛ تركيز الإدارة في الحكومة المركزية؛ تأصيل النظام العشائري والقبائلية؛ هيمنة الفكر الديني. نتيجة لذلك ضعف مفهوم الدولة وباتت بعضها هشة، والبعض الأخر فاشل، كما تصفها تقارير الأمم المتحدة. فساد الأنظمة الحاكمة وتمسكها بالسلطة ورّث الطبقة الخاصة من أحزاب أو مجاميع مصطفاة، كما إهتمت الحكومات المركزية بالوسط وأهملت الأطراف؛ وأختطفت هوية المجتمع بين مجالين: مجال “القبيلة” الذي يختزل الوطن في العشيرة؛ ومجال “الأمة” الذي لا يعترف بالوطن وأضحى الوطن من خلاله نقطة في بحر. ولذلك، باتت الدول العربية في ذيل القائمة في نواحٍ عديدة: المشاركة السياسية؛ والحريات الفردية؛ وحرية التعبير والرأي؛ وتطبيق القانون؛ وحقوق الإنسان؛ والتنمية البشرية؛ وحقوق المرأة والطفل؛ وإدماج الأقليات؛ والعدالة الإجتماعية.
ثامناً، لا مفر لأي كيان سياسي أو مجتمع شرق أوسطي من الإكتواء بنار العنف السياسي (الإرهاب) مهما حاولت تلك الدول، لكن أمام السلطة في تلك الدول واحد من خيارين: (١) تقوية الدولة ومفهومها والبدء بأسرع وقت ممكن بإصلاحات سياسية شاملة وإعادة بناء الدولة على الأسس الصحيحة بالإعتماد على المشاركة الشعبية الكاملة؛ (٢) الإستمرار في “حالة الإنكار” والإنتظار لكي يتفكك الكيان ويتفتت المجتمع شيئاً فشيئاً، ويمكن للسلطة حينئذ إلقاء اللوم على الآخرين، فإن لم تجد فنظرية “المؤامرة” هي الملاذ السهل. الخيار الأول لن يمنع “الإرهاب” بأي حال من الأحوال، لكنه لن يؤدي إلى زوال وتفكيك الدولة، مثل ما يحدث في الغرب تماماً الذي بنى دوله بأسلوب يمكنها من البقاء.
تاسعاً: السعودية كيان سياسي له مقومات الدولة العالمية بوجود الحرمين الشريفين، وهي مستهدفة كغيرها من الدول بالإرهاب كوسيلة سياسية بغطاء ديني إسلامي. عانت السعودية من الإرهاب قبل غيرها وأكثر من غيرها، وقد نجحت السعودية حتى الآن في التصدي للإرهابيين وملاحقتهم. لكن، بقدر علو مكانة السعودية، بقدر مواجهتها للرياح المعادية. فقوة الرياح وتعدد اتجاهاتها في قمة الهرم، أكبر من قوة الرياح وأكثر من تعدد اتجاهاتها عند السفح. وهنا يتوجب على السعودية أن تعمل جاهدة على محاربة الإرهاب الوسيلة السياسية المستجدة في العلاقات الدولية بوسائل سياسية، وعدم الإكتفاء بمحاربة وملاحقة الإرهابيين بوسائل أمنية أو عسكرية، فالقادم مذهل.
أخيراً، من الصعب والعسير على القوى العظمى غزو الدول الصغرى بالطرق التقليدية، لكن المراكز الإستخبارية في تلك الدول العظمى تملك الخيال، والوسائل، والخبرة التراكمية، لإستنباط وسائل مبتكرة في تفتيت الدول والمجتمعات الصغيرة والناشئة. ختاماً، الأهم في ذلك كله، أن الصراع اليوم أضحى وجودياً، بمعنى: تكون أو لا تكون، هنا السؤال. حفظ الله الوطن