كتاب 11

02:43 مساءً EET

جدة و«حارة الشيخ»

في مثل هذه الأيام من كل عام للسنوات الثلاث الأخيرة يحتفي أهل مدينة جدة العريقة بتراث مدينتهم الفريد، فيحيون ليالي رمضان بشكل احتفالي مميز بمهرجان «رمضان كنا كده» وهو يقام في المنطقة التاريخية من المدينة، تحت البقعة التي حصلت على تصنيف اليونيسكو، باعتبارها أحد مواقع العالم المهمة تراثيا وأثريا، فيتم إحياء في هذه المناسبة ذكريات وعادات وتقاليد مدينة جدة، سواء بالمهن التقليدية أو بإحياء الوجبات التراثية والأزياء التقليدية والألعاب المميزة والموسيقى والإنشاد والمعمار التراثي، فتصبح هذه الفترة بحق إحياء لماضٍ جميل ومبهر ومميز أعطى لجدة خصوصيتها التي تميزت بها، وحولتها إلى منصهر عظيم للثقافات والحضارات جعل فيها مساحة قلبية لقبول الآخر القادم إليها من شتى أصقاع الأرض، فأصبح ذلك بصمتها الحضارية الواضحة والبارزة في موائدها الثرية والغنية ومعمار بيوتها الغني بالنماذج العالمية المختلفة.
كل ذلك التنوع أدى إلى حدوث «ثقافة جداوية» انعكست على أسلوب الحوار بين سكانها والتراثيات الأدبية في التعاطي مع بعض، وأصبح هناك «مشيخة» لكل مهنة لتكون هذه المشيخة أداة تهذيب وتربية للمهنة ومن ينتسب إليها، وكانت «العوائل» الأساسية التي سكنت داخل سور جدة هي المعيار الأدبي والأخلاقي لسلوكيات وخلافات ومصالح جدة وأهلها عبر السنين.
وكان هناك مركاز العمدة التي كانت فيه تقضى حوائج الناس وإصلاح ذات البين، وكذلك كانت هناك «مجالس» الوجهاء التي كان فيها يتم التواصل الاجتماعي وتطبيق عملي لفكرة التكافل بأجمل صورها، والعمل الخيري كان في أوجهه بتطبيق جميل لكفالة الأرامل والأيتام، وأصحاب الحاجة على شكل دور رعاية سميت «أربطة».
كل ذلك هو الذي ألهم عشرات المؤرخين والكتاب بالكتابة والإشادة والمدح بحق جدة وأهلها، ووصفها بأنها منارة حضارية، وأهلها نموذج فريد ونادر للتعايش والتسامح وقبول الآخر.
ومن ضمن من كتب عنها كان العملاق الفرنسي الكبير فيكتور هوجو في مؤلفه المعروف باسم الأرز، والسبب الملهم نفسه هو الذي ألهم الفنان الموسيقار الفنان الكلاسيكي المعروف أنطونيو بيرناردي الذي ألف سوناتا على البيانو باسم جدة. كل هذا الثراء والتنوع والتميز كان يأسر كل من يأتي إلى جدة ويترك أثرا في قلبه؛ ولذلك تأتي صدمة الكثيرين ممن تابعوا المسلسل الرمضاني المعروف «حارة الشيخ» الذي قدم للمشاهدين على أن يحكي حقيقة تاريخية من تاريخ جدة، ولكن مع شديد الأسف قدم صورة هزلية كاريكاتورية لا علاقة لها بتاريخ المدينة ولا عاداتها ولا تقاليدها، وكأنه يتحدث عن مدينة أخرى غير جدة.
من الواضح أن المسلسل أراد استغلال نجاح «قالب» باب الحارة الذي تمكن من تقديم الحارة الدمشقية بشكل جذاب، فأعاد التجربة بشكل حجازي وجداوي، ولكن المشكلة أن التجربة كانت بعيدة تماما عن واقع جدة وتاريخها، الذي لا يزال في ذاكرة أهلها وعائلاتها، وهنا كان الخطأ الكبير. الدراما أقل ما يجب أن تكون عليها هو البناء على الحد الأدنى من الحقيقة والواقع، وهو ما فشل فيه مسلسل حارة الشيخ؛ لأنه اصطدم بتاريخ جدة الذي لا يزال حيا في ذاكرة محبيها.

التعليقات