كتاب 11
أميركا في ذاكرة السعوديين!
الحديث مستمر ومتواصل ولا ينقطع عن العلاقات الأميركية، خصوصًا في ظل وجود أصوات متصاعدة من الطرفين تحولت إلى أصوات معادية ومشككة في العلاقة وفي متانتها. السعوديون يراجعون هذه العلاقة في مجالسهم، وقد كنت حاضرًا في مناسبة رمضانية قريبة، ووجدت الحديث عن العلاقة مع أميركا يأخذ بعدًا فيه كثير من الذكريات، فلقد كان هناك عدد لا بأس به من الحضور من خريجي الجامعات الأميركية، ولديهم أبناء وبنات مبتعثون في برنامج الابتعاث للولايات المتحدة. وبدأ سرد العلاقة منذ اكتشاف النفط في المنطقة الشرقية من السعودية، والدور اللافت الذي لعبته الشركات الأميركية العاملة هناك، وانعكاس ذلك على تكوين ثقافة وبيئة إدارية استثنائية ومميزة انعكست على أسلوب الحياة بصورة عامة، وطريقة وأسلوب تفكير الناس، وكان ذلك واضحًا في العلاقات التي حصلت هناك.
كانت آثار ذلك واضحة في القطاعات الصحية والتعليمية والترفيهية والإعلامية، واستفاد أهل المنطقة من ذلك بشدة، فكانت المستشفيات والمعاهد والجامعات والمدارس والأسواق التي كانت مميزة أكثر من غيرها، وولد ما بات يعرف بـ«ثقافة أرامكو». ولم يقتصر «الأثر» الأميركي عند السعوديين على «أرامكو» فقط، ولكنه كان منظورًا في مؤسسة كبرى ناجحة هي الأخرى، والمقصود هنا مستشفى الملك فيصل التخصصي الذي وضع نواته مؤسسات طبية أميركية مميزة، وتم الصرف عليها بقوة في تأهيل الكوادر وتدريبها وتطويرها وإضافة منظومة بحث علمي غير عادية انعكست على بيئة العمل، فحولت هذه المؤسسة بسهولة إلى صرح طبي ناجح، ليس فقط على الصعيد المحلي السعودي، ولا على الصعيد الإقليمي، بل على الصعيد الدولي العالمي، فهذه المؤسسة باتت اليوم مرجعية في الطب والتمريض يؤخذ بتوجيهات كوادرها حول العالم.
أيضًا كان الناقل الوطني السعودي يعتمد على خطط تطوير وتدريب وتأهيل من عملاق أميركي في الطيران وقتها، هو شركة TWA التي قدمت خبرتها وكفاءاتها للخطوط السعودية حتى أصبحت الخطوط السعودية إحدى أهم شركات الطيران في العالم، تفتح خطوطًا إلى وجهات جديدة، وتطور أسطولها بشكل دائم.
الشركات الأميركية التي ساهمت وشاركت في تنفيذ مشاريع البنية التحتية المختلفة في السعودية كانت مشاريعها مميزة ناجحة، وجعلت لأسمائها مكانة عالية، فالكل لا يزال يتذكر تيرنر وبيكتل وفلاور، وغيرها من الشركات العملاقة الناجحة. هذا كله بالإضافة لحجم الثقة والنجاح الذي حظيت به المنتجات الأميركية والخدمات المقدمة في السوق السعودية عبر سنوات طويلة من النجاح والتميز، مع عدم إنكار الود والحنين والشوق المتزايد للسعوديين الذين يفضلون قضاء إجازاتهم هناك، وإرسال أولادهم للدارسة هناك بأعداد هائلة. كل ذلك جعل لأميركا مكانة خاصة ومميزة في العقلية السعودية، ولكن السياسة الخارجية تبقي العلاقة الرسمية محل شد وجذب ومد وجزر. وتبقى المعضلة الأهم أن الفكر المؤسسي في العلاقة بين البلدين أبقى العلاقة بين الحكومتين، ولم يتم الاستفادة من الحالة الإيجابية الموجودة والإرث الجميل في نقل العلاقة لتكون علاقة مؤسسات بين الشعوب، فلم نرَ مثلا جمعية المهندسين السعوديين الأميركيين، ولا جمعية الأطباء السعوديين الأميركيين، وغيرهما من الجمعيات التي تجمع بين الشعوب، فتعزز بها العلاقة.
هناك إرث جميل لدى السعوديين حينما يسترجعون أميركا في بلادهم، ومن المعيب ألا يتم توظيف ذلك كله للإبقاء على علاقة مهمة للطرفين أثبتت جدارتها عبر السنين.