كتاب 11
تجديد آن أوانه!
في عصر المعلومة الرقمية الدقيقة، في زمن التقنية الحديثة، في أيام محركات البحث المعلوماتية المذهلة، تبقى الإجابات عن أسئلة في صميم البحث العلمي للتراث الفكري في الفقه الإسلامي مسألة معقدة ومعضلة، فهناك عدد لا بأس به من العبارات والديباجات التي تحولت مع مرور الوقت إلى مسألة أشبه بالمسلّمات المقدسة غير القابلة للبحث ولا النقاش. فهل يمكن مثلاً تقديم قياس حقيقي وعملي قابل للحسبة عن لفظ «جمهور العلماء»؟ وبالمفهوم والغاية والغرض نفسها يرجى تقديم إحصاء دقيق عن المقصود بمفهوم «السلف الصالح»، وما الذي يفرقهم عن «السلف غير الصالح» مثلاً؟
هناك لفظ آخر بحاجة إلى أن يخضع للتدقيق العلمي المنشود والمقترح وهو «ما اتفق واجتمعت عليه الأمة».
تراكمت الكتب عبر الأزمنة، وكونت إرثًا متوارثًا، ومع مرور الوقت لم يكن من الممكن «نقد» – حتى لا نقول التشكيك – في رحابة رأي أو فتوى أو بحث أو كتاب لعالم أو شيخ، حتى إن الجرأة بلغت أنه تم قبول فكرة «تصحيح» أحاديث للرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، لكن لا تقبل فكرة الإقدام على تصحيح أو حتى حذف كثير من الضار والخطير من آراء وفتاوى كثير من العلماء المعاصرين والقدامى، واعتبار ذلك نوعًا من الانتقاص بهيبة الدين نفسه، وهذا طبعا هراء عظيم.
الحديث عن ضرورة وأهمية، بل وحتمية مطلب التجديد في الخطاب الديني، ليس نوعًا من الترفيه والرفاهية الفكرية، أو كما يدعي مقطبو الحواجب مكفهرو الوجوه، بأن «هذا هو جزء أصيل من مخطط تغريبي للأمة»، وأن «هذا هو تكملة للمشروع الصهيوني الإمبريالي لتركيع الأمة»، متناسين الحديث النبوي الشريف، على صاحبه أفضل صلاة وأتم تسليم، الذي أكد فيه أنه يُبعث على رأس كل مائة عام مجدد يجدد للأمة دينها، فالتجديد بالتالي سنة مؤكدة وحكمة طبيعية، لإثبات أن الدين بفكره وفقهه بعيد عن الجمود والتحجر وصالح فعليًا وعمليًا لكل زمان ومكان.
من الواضح جدًا أن التجديد في الخطاب الديني بات مطلبًا جوهريًا، وبات من المهم أن يحصل خطاب متجدد لا يقتلع من الجذور ولا يبعد عن مستجدات العصر، على أن يراعي واقع الناس وأحوالهم بما لا يخالف أصول الدين.
العمل المؤسساتي بات مطلبًا جوهريًا، لأنه هو الأسلم للمجتمعات المتعددة مذهبيًا وطائفيًا وعرقيًا، ففي ذلك عمل جماعي تتم فيه مراعاة الظروف الجمعية للمجتمع بعيدًا عن رأي الفرد الواحد الذي قد تتغلب عليه الأنا والهوى ومآرب أخرى. ويتضح أن أحد أهم أسباب تدهور الخطاب الديني المعاصر هو الدخول الفج للسياسة في محتواه، إذ اتضح أن هناك من كان يستغل ذلك في مراحل مختلفة ومحطات متتالية لتحقيق مآربه وأهدافه وغاياته المتنوعة.
التحديات المعاصرة تقتضي التعامل مع «التراث» الديني بشكل مختلف ومعرفة، وأن فكرة «الأمة الإسلامية» تغيرت، وأصبح من الضروري التعامل الواقعي «للمسلمين حول العالم»، وهو الذي ولّد فكرة فقه المهجر لمسلمين يعيشون بوصفهم أقليات في دول غير إسلامية في جميع أنحاء المعمورة، ولهم بعض الآراء الفقهية مختلفة نوعًا ما عن الآراء المسموح بها للمسلمين الذين يعيشون في دول إسلامية. وهذا في حد ذاته باب عظيم لكسر الجمود التقليدي عن التمسك بالموروث والتراث الذي تحول مع الوقت إلى قدس مقدس، وهو في حقيقته ما هو إلا تراث بشري بحت له ما له وعليه ما عليه.
التجديد مطلب حيوي للمسلمين أولاً وقبل غيرهم، ولن يكون للتجديد الأثر الحقيقي إلا بشجاعة كاملة في مواجهة الحمل الثقيل والخلاص من كثير من الذي انتهت صلاحيته الزمنية، لأن القرآن وحده هو الذي يصلح لكل زمان ومكان.