كتاب 11
بوتين روسيا
يواصل الرئيس الروسي فيلادمير بوتين تقديم تصرفات تبعث على الاستغراب والدهشة من لدن متابعيه بشكل مستمر، ولعل آخر هذه التصرفات كان المشهد «الهوليوودي» الذي قدم فيه لقاءه ببشار الأسد في الكرملين بالعاصمة الروسية موسكو، ولحقه بحملة إنقاذ وتدمير عسكرية لنجدة نظام بشار الأسد في سوريا، وتدمير مدينة حلب بالكامل.
هذا اللقاء والتصرفات التي لحقته كان لأجل فيلادمير بوتين وحده لأجل تسجيل نقاط في الملعب السياسي أمام خصومه حول العالم. إنها حلاوة الروح؛ لأنه واقعيا وبعيدا عن عشق الذات والنرجسية والأنا العليا التي يعرف بها الرئيس الروسي، فإن وضع روسيا اليوم أسوأ بكثير جدا من خمس سنوات مضت. ففي تلك الفترة التي مضت كانت روسيا في وضع أقوى وأهم؛ كان لروسيا تطلعات جادة ومهمة، قامت بتأسيس الاتحاد الأوروآسيوي من دول أوروبية وآسيوية ليكون منافسا حقيقيا للاتحاد الأوروبي، وخصوصا بصفته كيانا اقتصاديا فاعلا ومؤثرا في الساحة الدولية. كما قامت بتعزيز علاقاتها في المحيط السوفياتي القديم وزرعت صديقا وحليفا مؤيدا لها في أوكرانيا رئيسا للبلاد وهو فيكتور يانوكوفيتش، وبدأ الغرب يتعامل مع روسيا على أنها دولة صديقة وليست عدوة، وانعكس ذلك على الانفتاح الاستثماري عليها، حتى أن حلف الناتو دعا الرئيس الروسي وقتها ديمتري ميدفيديف لحضور قمة الناتو في لشبونة بالبرتغال في عام 2010، وكان الحديث عن تطور «الشراكة الاستراتيجية» معها.
انعكس ذلك بوضوح على موقف الرأي العام في الولايات المتحدة وروسيا ورأي الناس في البلد الآخر، وفي الحالتين كان الرأي «إيجابيا» وليس «عدائيا»، بل إن روسيا قامت بدور إيجابي كجزء من قيادة المجتمع الدولي، وساهمت في وضع عقوبات جديدة ضد إيران في عام 2010.
ولكن لأن غلطة الشاطر بألف، وقع فيلادمير بوتين في الفخ المنصوب له، فبدأ الغرب «يناكش» ويختبر قوة جأش بوتين، وذلك باستفزازه بالإعلان عن عزمه وضع صواريخ متطورة للغاية في كل من المجر وبولندا وجمهورية التشيك، وهي دول أعضاء في حلف الناتو وكانت جزءا من منظومة الاتحاد السوفياتي، وعدّت روسيا أن الصواريخ موجهة ضدها وتشكل تهديدا صريحا ومباشرا لأمنها القومي. كذلك عدّت روسيا التدخل في كل من جورجيا وأوكرانيا من قبل الولايات المتحدة تهديدا لأمنها القومي؛ لأن كل من يعرف بالشؤون الروسية يعلم أن جورجيا وأوكرانيا هما الحديقة الخلفية للدولة الروسية.
بلع بوتين الطعم وتحرك بالدخول العسكري العنيف الذي فتح على روسيا أبوابا لم تغلق من العقوبات الاقتصادية دفعت إلى هبوط حاد في الوضع الاقتصادي إلى أن يكون معدل النمو فيه سلبيا بنسبة ناقص 2.2 في المائة، وأن يخسر أكثر من ستين في المائة من حجمه، وزاد جنون الروس بأن يعاندوا أكثر على الساحة السورية، وراهنت على ديكتاتور طائفي مجرم فقد احترام السوريين وولاءهم، إضافة إلى فقدانه شرعيته، ولكن الروس، بحسب العالمين بأسلوب بوتين، لا يحترمون بشار الأسد الذي رفض الانصياع لنصائحهم بالإفراج عن الأسرى والسجناء لتقوية مواقف المعارضة الوطنية، وأنه آثر الاستماع لتعليمات إيران التي كان اتجاهها طائفيا، وعالجت مواجهة الإرهاب بإرهاب ترعاه هي، وأدركت روسيا أن بشار الأسد لا يستطيع الحكم ولا الوفاء بالتزاماته، ويخشى الساسة الروس أن بوتين ورط نفسه في الأزمة السورية، فالصراع الطائفي (وهو التوصيف الحقيقي للوضع في سوريا اليوم) عمره مئات من السنين، ولن يستطيع بوتين أبدا، كما يقول منتقدوه الروس، أن يعالج الأمر بسهولة.
اليوم في روسيا يتم التعامل مع سياسات هي على هوى رجل بعينه وليست سياسات دولة ذات مؤسسات ولها رؤى. سياسات روسيا التي نراها اليوم هي مستمرة متى ما كان بوتين موجودا فقط.