كتاب 11
مثال عملي للتسامح
عاشت العاصمة البريطانية لحظات مثيرة وتاريخية، وذلك بإعلان النتيجة النهائية عن فوز صديق خان بمنصب عمدة لندن، وهو بذلك يصبح أول بريطاني مسلم يتولى هذا المنصب، وأول مسلم يتولى منصب عمدة في عاصمة أوروبية.
وصديق خان من أصول باكستانية، هو ابن سائق حافلة، وتعد هذه اللحظة مشهدا مميزا وعقلانيا وناضجا وسط موجة لا تنتهي من الأخبار السيئة عن التصرفات العنصرية ضد اللاجئين والمهاجرين من أصول مسلمة وأفريقية وآسيوية وشرق أوسطية.
تصرفات عنصرية تم تبنيها من قيادات سياسية مختلفة، ومع ذلك كان صوت العقلاء والحكمة موجودا؛ لتثبت لندن أنها المصهر الأكبر للحضارات والثقافات والمجتمعات، وأنها مثال «عملي» للتعايش والتسامح وقبول الآخر، وهي تعيش هذه اللحظات نفس لحظات باراك أوباما في الولايات المتحدة الأميركية عندما وصل إلى سدة الحكم للبيت الأبيض كأول رئيس من أصول أفريقية، والتي اعتبرت وقتها نقلة نوعية عظيمة لا تزال آثارها متواصلة.
الشعوب والأمم تمر بمراحل مختلفة من النضج الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وهي مراحل حاسمة تنقلها من التنظير إلى التطبيق العملي الحقيقي للأفكار المثالية، وهذه المجتمعات لديها القدرة المجردة والواثقة على نقد الذات بعمق وإصلاح التجربة، ومن ثم تطويرها والاستفادة من الأخطاء والقصور بدلا من الصد والممانعة والإنكار المطلق.
هذه النوعية من الإنجازات الاجتماعية في قالب سياسي أو رياضي أو اقتصادي تصب جميعها في خدمة إصلاح المجتمعات وإزالة الفكر العنصري والممارسات المليئة بالتفرقة والتمييز بشكل هستيري بشع.
وقد كانت هذه الممارسات عادة ما يتم تبريرها و«شرعنتها» بوضعها داخل إطار ديني، فتأتي تفسيرات وآراء وفتاوى مريبة تعطي للتمييز العنصري الغطاء المناسب والروحي لها، ومن جهة أخرى كانت هناك آراء سياسية تتبنى شرعية التفرقة العنصرية والتمييز على أنها مسألة «طبيعية» وسنة من سنن الكون الطبيعية والعادية والمتوقعة.
كل هذه الآراء ما كانت سوى وسيلة رخيصة ودنيئة لتبرير جرائم الكراهية بحق الآخر، والمجتمعات الغربية تحاول مواجهة هذه الآفة (تنجح تارة وتفشل تارة ولكنها تحاول) بالتشريعات والأنظمة والقوانين والسياسات التي تحرم الممارسات العنصرية. وكم كان لافتا (ولكن كان متوقعا) انشغال العالم بفرح واحتفالية فوز صديق خان كأول مسلم لمنصب عمدة لندن، بينما فتحت مواسير مجاري الحوار العفن في العالم العربي عن هوية وطائفة الرجل إذا ما كان سنيا أو شيعيا، هذا هو المهم بالنسبة لهم وليس الإنجاز الحضاري الذي تم بقبول الآخر والمختلف في منصب حساس ومهم ومؤثر، وهي مسألة لا يستطيع أي أحد منهم الاستشهاد بمثلها في أماكن اعتراضه وتنظيره العقيم.
مسألة القبول والتعايش والتسامح ليست ترفا تنظيريا وجهدا أكاديميا ينظر فيه، ولكنها ممارسة فعلية وحقيقية لمبادئ ومعتقدات يتم تطبيقها بشكل مستمر ومتواصل، هذه هي المعايير الأخلاقية التي جاءت لإتمامها الأديان السماوية، ودون ذلك ما هو إلا فكر عقيم وكراهية مقيتة وجبت محاربتها.