كتاب 11
منطق اللامنطق!
في مناسبة اجتماعية حضرتها مؤخرًا جمعتني ببعض أصدقاء وزملاء المرحلة الدراسية تناولنا فيها الذكريات والمواقف، وطبعًا كانت أيضًا فرصة لي شخصيًا لمعرفة مواقفهم في مسائل شائكة ونظرتهم لكثير من النقاط الجدلية. وكم كانت دهشتي وخيبة أملي في أن تعليقات وإجابات معظمهم مبينة على طرح نمطي وتقليدي.. إجابات مبنية على تراث أرشيفي وليس هناك أي محاولة للتفكير والنظر للمسائل بشكل غير نمطي واستعمال العقل وآلية التفكير العظيمة.
لاحظت أنهم مثل غيرهم ينظرون للمستقبل، اعتمادًا بشكل رئيسي وقد يكون حصريًا، على فكرة استخدام الماضي أو المرآة الخلفية دون الاستعداد للخوض في رحلة المستقبل بشكل عملي وتفاعلي، ولذلك غابت منظومة التخطيط واستحضار الرؤية عن الفكر المعاصر في المنطقة بشكل غريب، وأصبح أي طرح فيه نوع من التخطيط والاستعداد للمستقبل يدخل في «علم الغيب» والتدخل في الأقدار المكتوبة بحسب ما علق عليه أحد رجال الدين في يوم من الأيام، وهو تعليق أقل ما يقال عنه إنه بعيد عن الواقع ولا علاقة له بما قال أبدًا. وما قيل عن التعاطي مع فكرة الرؤية والتخطيط والإعداد للمستقبل قائم أيضًا على فكرة الانفتاح على الآخر وثقافته وقبول المختلف عنا، فيكون من السهل إطلاق النار الفكري على كل فكرة «جديدة» و«مختلفة» تنادي بقيم التسامح والاندماج والانفتاح على الآخر المختلف للتعارف، كما أُمرنا في الدين الحنيف ويكون من يغفل ذلك الأمر عرضة للإهانة واللعنات وحملات التكفير والتشكيك بشكل متواصل تحت شعار مظلات التغريب والتخوين، وأن من يقوم بعمل ذلك خائن لوطنه ودينه ومجتمعه ولا مكان له «بيننا»، فيصبح بالتالي صاحب رأي شاذ وغريب وخارج عن الدين والملة وإجماع المجتمع ومن السهل إقصاؤه.
هناك خطوط تماس وهمية تم ترسيمها في ذهنية المجتمع على قضايا جدلية ولكنها مع مرور الوقت تم ربط من «يتجاوز» هذه القضايا ويعتبرها «جائزة» وكأنما يخوض في معركة ضد الصلاة والصوم، وبالتالي يتشتت المجتمع في جدال بيزنطي عقيم على قضايا لا تقدم ولا تؤخر بدلاً من تسخير الوقت والجهد والأعصاب على ما هو نافع ومفيد للغد والمستقبل، وفيه من الفوائد والعبر والمصالح ما يعم نفعه على قطاع عريض جدًا من الناس.
كم أصبح سهلاً جدًا منطق التكفير ومنطق التخوين وأصبحت هناك عبارات معبأة سلفًا وجاهزة للإطلاق وتلصق على كل من «يخالفنا» شكلاً وصوتًا ومنطقًا وموقعًا ومضمونًا.. من خالفنا فهو ليس منا، ومن كان ليس منا وجبت وحلت عليه اللعنة.
انظر حولك تعرف أسباب ما يحصل.. إنه منطق اللامنطق، وهو الذي يسود اليوم.