كتاب 11
السعودية والطفل المصري
يتساءل البعض كيف يمكن للشراكة الإستراتيجية بين السعودية ومصر أن تكون متوازنة بحيث ينتفع منها السعودية ومصر على حد سواء، ولا تكون ذات نفع أحادي لمصر فقط، على سبيل المثال، أو للسعودية فقط، وإنما منافع متبادلة. حسناً، يظن البعض أن الشراكة الإستراتيجية تقتصر على حفنة مليارات هنا أو هناك تقدمها السعودية، أو بعض دول الخليج، لمصر والشعب والحكومة والجيش والدولة، ولكن هذا المفهوم قاصر في ظننا. فالسعودية بحاجة ماسة إلى الشعب المصري وأفكاره وإبداعاته أكثر ألف مرة من حاجة السعودية أو دول الخليج للنواحي السياسية أو العسكرية أو الأمنية. القيمة الكبرى والمضافة هي في الشراكة الإستراتيجية مع الشعب وأفراد المجتمع المصري.
تثبت الدراسات أن الفرد المصري من أذكى الشعوب في العالم، وخصوصاً الطفل المصري حتى بلوغه سن الثانية عشرة. ولو تم البناء على هذه الدراسات التي نجزم بأنها حقيقة، لأمكن لنا في السعودية أن نحقق منافع متبادلة مع العقول المصرية والإبداعات والإبتكارات لدى الفرد المصري بعيداً عن بيروقراطية الحكومات، وبعيد عن السياسة والحرب. بمعنى أخر مدننة العلاقات السعودية المصرية وأنسنتها والإتجاه نحو الفردانية التي هي الأساس في التقدم البشري، والعنصر المحرك لتقدم الأمم. وبنظرة عجلى على التقدم الحضاري الإنساني نجد أنفسنا أمام أسماء أفراد أبهروا العالم وتركوا بصماتهم على التقدم العلمي والثقافي والأدبي والفلسفي، وكافة مناح الحياة.
يمكن تحقيق تلك المنافع المتبادلة المتوازنة بين السعودية ومصر، بخلق حاضنات للإبتكار والإبداع تستقطب المبدعين من الشباب المصري الواعد في كل مراحل التعليم من الروضة مروراً بالمرحلة الإبتدائية لكي يتم تلقف أفكارهم وتطورها في بيئة علمية حاضنة وقبل ذلك أو خلاله يتم تدريبهم على أسس التفكير الإبداعي. يصار أيضاً إلى خطة لإستقطاب عدد محدد في خطة عشرية لتتمكن هذه الحاضنات من تكوين جيش من المبدعين لا يقل عن (١٠،٠٠٠) خلال الخطة. عندها يمكن تقويم التجربة وتطويرها في العشر السنوات التي تليها إلى عدد أكبر ومجالات أرحب.
تقوم هذه الحاضنات بإستيعاب أعضائها في مدن علمية تقنية وبيئة مناسبة للتأكد من عدم تلاشي جذوة الذكاء والإبداع التي عادة ما تتضاءل بعد إنخراط الفرد في المجتمع بقيودة وتعقيداته وإحباطاته. الفرد المصري يحتاج إلى بيئة صحية وسليمة تفتح ذهن المبدع والمبتكر إلى عوالم المستقبل بكثير من التفاؤل والأمل. يكون دور الحاضنات هو تهيئة الظروف الملائمة، وتطوير الأفكار، ونشر المخترعات وتصميمها وصناعتها وتسويقها وحمايتها، وحفظ حقوق المبتكر والمبدع، مما ينعكس إيجاباً على الأطراف ذات العلاقة للحاضنة. ويمكن أن تشكل العوائد المالية لهذه الأبحاث والمخترعات رافداً أساسياً لإستمرار الحاضنة.
لو قامت اللجنة السعودية المصرية المشتركة بفرض رسوم بمقدار (١٪) من حجم الإستثمارات في مصر على مدى العشر سنوات الأولى للمسئولية الإجتماعية تكون رأس المال لهذه الحاضنات لأمكن إنشاء أفضل مركز للأبحاث والإختراعات في العالم العربي تستفيد منه المراكز البحثية والجامعات والمصانع العالمية. فلو إفترضنا أن حجم الإستثمارات السعودية تقدر بـ (٥٠) مليار دولار، فنحن نتحدث عن (٥٠٠) مليون دولار كرأس مال للحاضنات يساعدها على الإنطلاق بقوة لإستقطاب العقول المصرية الواعدة لخير ومنفعة العالم. كما أن إنشاء (٥٠) حاضنة في مختلف أنحاء القطر المصري هو أمر بالغ الأهمية.
يشكل هذا المشروع نواة “التوازن الإجتماعي العلمي” لفائدة الفرد المصري مقابل بعض الأثار السلبية والتقليل منها، والتي قد تطرأ على المجتمع المصري من خلال انطلاق الماكينة الإقتصادية في مصر لتغيير وجه الحياة للشعب المصري. هذا المشروع هو ضرورة لخلق توازن بين جذب الإستثمارات، وطرد البيئة الصالحة للابداع. فعندما يتم إنشاء مجمع صناعي أو تجاري في المشاريع السعودية المصرية المشتركة لدعم الإقتصاد المصري، وزيادة الدخل القومي، وتوظيف الأيدي العاملة المحلية، فإنه سيترتب على ذلك من دون أدنى شك أثار جانبية على مدخلات فكر الفرد المصري، مما يؤثر على قوة الإبتكار والإبداع.
ساهمت مصر منذ عقود في تشكيل الوعي الثقافي والعلمي العربي، ولم تتراجع تلك المساهمة إلا بعد تأثير الحياة المعيشية وإتجاه التفكير لملاحقة شبح الحياة اليومية بحيث بات تأمين لقمة العيش اليومية من خلال بعض الدعم أو تأمين فرص عمل، يغلب على المشاريع طويلة المدى التي تعيد لمصر هيبتها ومكانتها في إثراء العالم العربي والغير عربي. تأمين لقمة العيش للفرد المصري، أمر هام وحيوي، لكن التفكير في “ماذا بعد” هو تأمين للمستقبل. لو أخذ أي منا ورقة وقلم ليرصد مسيرة مصر للعشرين سنة القادمة لوجدنا أن معظم الجهود تنصب على ملاحقة الحياة وتكاليفها التي تتعقد كل يوم أكثر من اليوم الذي سبقه.
رب قائل يقول، أن مصر الجديدة سائرة على هذا النحو بجهود متواضعة، لكنها في الحسبان. ونحن نقول، لا بأس. المطلوب هو إشراك الإستثمارات الخارجية في تلك الجهود لكي تزدهر وتقوى. وإذا كانت العلاقات السعودية المصرية دخلت مرحلة جديدة من المشاركة، فليكن للفرد المصري الذكي والمبدع والمبتكر نصيب من هذه الورشة الإقتصادية. فالخوف كل الخوف أن يذهب الإهتمام إلى تنمية عوائد الإستثمارات الخارجية ويتم إهمال أثمن ما تملكه مصر، وهو العقل المصري الذكي والمبتكر والمبدع. ولذا، يجب أن تكون رسوم المسئولية الإجتماعية، قاعدة لمشروع “التوازن الإجتماعي العلمي”، في الشراكة الإستراتيجية السعودية المصرية.
أخيراً، الفرد المصري يملك إبداعات منذ الطفولة سواء كان حافياً حول الترعة في الصعيد، أو يعبث في تراب سيناء، أو ماشياً في سواريب المدن المليئة بالوجوه. الطفل المصري طاقة جبارة يجب أن تحتضن لتقود العالم في شتى المجالات من دون إستثناء، فهو أفضل وأذكى من الطفل الياباني والصيني والهندي والأوروبي والأمريكي مجتمعين، فلا يجب أن يضيع بين حفنة المليارات وعوادم السيارات. ختاماً، الشراكة الإستراتيجية بين السعودية ومصر فرصة تاريخية ستقوم الأجيال القادمة بتقويمها بكل موضوعية والطفل المصري هو قوامها وعمادها، فمن يعلق الجرس؟
كاتب، ومحلل إستراتيجي
turadelamri@hotmail.com