كتاب 11
الأمير؛ والمجتمع؛ وقيادة المرأة
بعد إعلان الأمير محمد بن سلمان للرؤية السعودية 2030 تفتحت الأذهان، وزادت الطموحات والأمال، بأن تبادر الدولة بحسم الجدل حول كثير من القضايا التي تخص مشاركة المرأة في الحياة من دون تمييز أو معوقات. تباشر المجتمع السعودي بتصريح الأمير لصحيفة “بلومبيرغ” بأن قيادة المرأة للسيارة لا تتعارض مع الدين. حسناً، ظن كثيرون أن إعلان الرؤية سيحمل تباشير إنعتاق المرأة من هيمنة الفكر الذكوري حول تقييد وتعقيد قضايا المرأة، وقضايا أخرى سياسية وإجتماعية وثقافية أخرى. المثير، أنه بعيد إعلان الرؤية صرح الأمير بأن المجتمع غير جاهز لقيادة المرأة للسيارة، مما أصاب كثيرون بصدمة من هذا التحوّل في موقف الأمير.
الصدمة ليست لأن المرأة لن تقود السيارة، وليس لأننا لن نشاهدها تصطف في طوابير إدارة المرور للحصول على رخصة قيادة، وليس لأننا متشوقون لرؤيتها خلف مقود السيارة لمعاكستها ومغازلتها في الشوارع، كما يظن البعض. الصدمة هي أن فارسنا المغوار الذي إنتظرناه طويلاً ونؤمل فيه وعليه، بعد الله، أن يحرر المجتمع السعودي من كثير من القضايا الوهمية التي سيطرت على الوعي الجمعي للمجتمع السعودي بسبب حفنة خلطت بين العادة والعبادة وبين السائد والثابت. فإذا غيّر “عراب” الرؤية السعودية من قناعاته، سراً أو علانية، في موضوع ذو أهمية، لكن وزنه في التغيير طفيف، فكيف يستطيع أن يكمل المشوار، وينفذ هذا التحوّل الوطني والرؤية الطموحة لفتح أفاق الإستثمار والسياحة للعالم، وهو لم يستطع فتح أذهان وعقول فئة محدودة منغلقة في الداخل.
قيادة المرأة للسيارة ليست هدفاً في حد ذاتها، ولا يعني بأنه بمجرد أن تقود المرأة في السعودية ، سيتسابق المجتمع إلى الرذيلة والتفسخ والفجور. ولا يعني انه ستتلاشى معوقات مشاركة المرأة في الحياة أو مشاكل المجتمع، وسينتهي الفساد، والغش، والكذب، والتحايل، والرشوقراطية، والبيروقراطية. السماح للمرأة بالقيادة هو رمز يعني إطلاق وتحرير وإنعتاق نصف المجتمع من الهيمنة الذكورية، والإصطفاف مع الرجل على قدم وساق للبناء والتنمية لتحقيق هذه الرؤية الطموحة التي ستنقل السعودية إلى ثقافة الحياة. من جانب أخر، من المؤكد والحتمي أن الدولة والحكومة والمجتمع سيواجهون الكثير من القضايا بعد السماح للمرأة بالقيادة، فهذا شأن التطور والديمومة في الحياة، ويتلخص في إحلال مشاكل مستجدة محل مشاكل أخرى قديمة.
تراجع الأمير محمد بن سلمان عن بعض من قناعاته الهامة للمجتمع أصاب البعض بشيء من الإحباط، مما أدى إلى التساؤل: إذا كان موضوع قيادة المرأة راجع إلى المجتمع فكيف يمكن لنا معرفة رأي المجتمع؟ هل سيجري إستفتاء عام لكافة أفراد الشعب يتضمن سؤال عن ما إذا كان الفرد من مؤيدي أو معارضي قيادة المرأة للسيارة؟ وما دخل أفراد المجتمع الذكور في تقرير قيادة المرأة البالغة العاقلة من عدمه؟ وهل هناك نية في القريب العاجل لإلغاء مجلس الشورى الحالي وإستبداله ببرلمان منتخب يمثل كافة أطياف المجتمع ثم يصوت على قيادة المرأة؟ وهل سيصار إلى مجلس الشورى الحالي، الذي فقد مصداقيته لدى المواطن السعودي، لكي يصوت على الموضوع بإعتبار مجلس الشورى هو الوسيلة الوحيدة المتوفرة؟ أم سيترك الأمر لكل منطقة من مناطق المملكة لكي تقرر عبر مجالسها البلدية المنتخبة في تصويت ما إذا كان سيسمح للمرأة قيادة السيارة تبعاً لثقافة المنطقة؟
نتصور أن موضوع قيادة المرأة للسيارة على أهميته الرمزية لا يشكل أكثر من (١٪) من قضايا كثيرة سيضع بسببها أعداء النجاح والتغيير والحياة الكثير من المعوقات في طريق مسيرة الأمير الطموحة. وبدلاً من إنتظار “المجتمع” الوهمي الذي يتحجج به البعض لكي يقتنع، يتوجب على الدولة أن تحزم أمرها وتحسم كافة القضايا الرمادية التي أدت إلى تخلف المجتمع السعودي، لخلق الأرضية المناسبة، والبداية الصحيحة، والبيئة الأمثل، لإنطلاق الرؤية السعودية. الدخول للمستقبل على إستحياء أو بتردد، أو بتقديم قدم وتأخير أخرى، هو أسلوب سلبي يعرفه سمو الأمير تمام المعرفة وهو قائد عاصفة الحزم التي إنطلقت بمقولة: “الحزم أبو العزم أبو الظفرات، والترك أبو الفرك أبو الحسرات”.
قيادة المرأة، وعملها، وتعليمها، ومشاركتها، في أي من مناحي الحياة كان الموضوع الذي إستعصى على التناغم مع الدين أو العقل أو المنطق أو الواقع في المجتمع السعودي، بسبب عادات وتقاليد بالية سادت ثم بادت، لفئة معينة، من منطقة معينة، في حقبة معينة، شاء لها القدر والظروف والحظ أن تهيمن على قرار الدولة في تحديث وإدارة المجتمع السعودي، فخلطت تلك الفئة بين المجتمعي والديني والسياسي، مما ولّد نتيجة شوهاء باتت الصورة النمطية للسعودية. المثير والخطير في الأمر، أن عدم حسم موضوع المرأة في البدايات أدى إلى إستمراء تلك الفئة في التمادي لقياس قوتها وسلطتها وحضوتها لدى الدولة (رأس الهرم) عبر المد والجزر في موضوع المرأة، وفي خضم وخلال هذه الرحلة الطويلة تم تمرير العديد من قضايا التطرف والإقصاء والتمييز والكراهية للآخر من هذه الفئة في الداخل والخارج ليتحول المجتمع السعودي إلى نشاز.
تأتي الرؤية السعودية بقيادة أمير شاب فطن، يمثل جيله (٧٠٪) من تعداد الشعب السعودي، مما يعني أن هذا الجيل هو الأغلبية، ويعني أيضاً أن الرأي رأي هذا الجيل، والحياة شأنه، والمستقبل بيد هذا الجيل، بتوفيق من الله سبحانه وتعالى. فهذا الجيل اليوم هو الأساس، والأصل، والحاضر، والمستقبل، وما عداه ضيوف في الزمان والمكان ومن متاع الماضي. لقد عاني الجيل الشاب الجديد من كثير من أدبيات وقناعات الجيل الذي سبقه، ويحتاج بالضرورة إلى إجراء قطيعة معرفية مع موروثه المختلط، لكي يبنى الجيل الجديد صنع المستقبل، بدلاً من أن يُصنَع له من أجيال غلب على تفكيرها “الإبائية” (إنا وجدنا أبائنا..). وقد تضطر الدولة، ونقصد هنا “رأس الهرم”، إلى تمكين الأمير الشاب من صنع رؤيته الجديدة التي بكل تأكيد ستحول ضد شيخوخة الدولة والمجتمع، ومنحها ترياق الحياة لتكابد المستقبل.
ليتخـيّـل سمو الأمير معنا، لو صدر مع “برنامج التحوّل الوطني” بعد (٦) أسابيع قرارات تمنح المرأة حق قيادة السيارة لمن تريد من النساء، وتم تعيين (٣-٤) وزيرات في الحكومة، وتعيين (٤٠-٥٠) سفيرة سعودية في ممثليات المملكة في الخارج، وقرار يفرض نسبة (٥٠٪) من العنصر النسائي في كل إدارة أو لجنة أو مجلس إدارة أو عمل حكومي جماعي خلال سنوات الرؤية. هذا سيعطي رسالة قوية وواضحة بأن إدارة الدولة لا يمكن إختطافها من فرد أو فئة أو فكرة. المحزن، هو عندما نشاهد يومياً أن هيلاري كلنتون تنافس بقوة على رئاسة الولايات المتحدة بحجمها وعظمتها، وأن أنجيلا ميركل ترأس ألمانيا الدولة الأقوى في أوروبا لأكثر من (١٦) عاماً، فهل هذا يعني أن نساء الغرب والشرق لديهن القدرة على قيادة دول وشعوب في السياسة والإقتصاد والعسكرية، لكن نساءنا لا يستطعن قيادة حتى سيارة؟
أخيراً، نعرف أن موضوع قيادة المرأة للسيارة بات مملاً، وكئيبا، ومستهلكاً، لكن تبدل قناعات سمو الأمير محمد بن سلمان، إستفز فينا التفكر والتأمل والتساؤل: هل واجه الأمير الشاب معارضة قوية من حراس القيم والعادات جعلته يغير رأيه؟ وإذا كان الجواب، لا سمح الله، بنعم، فكيف سيمضي الأمير في تنفيذ الرؤية السعودية التي تفترض فتح السعودية على العالم، وهو لم يتمكن من فتح عقول ثلة من المنغلقين؟ ختاماً، نحن على ثقة بأن ما صرح به الأمير ليس تراجعاً أو إنسحاباً، بل هو تكتيك، حسب المفهوم العسكري. أليس الأمير الشاب، أيضاً، وزيراً للدفاع؟ حفظ الله الوطن.
كاتب سعودي
turadelamri@hotmail.com