كتاب 11
الأميـر؛ والرؤيـة؛ والإصطدام بالشارع
تحدث الأمير محمد بن سلمان عن الرؤية المستقبلية للسعودية 2030، فقال كلاماً أبهر الغالبية العظمى من المشاهدين، على ما نظن، ولفت الأنظار، فقد كانت المرة الأولى التي يجري فيها الأمير مقابلة تلفزيونية ويتحدث مع وسيلة إعلامية مرئية. وبينما حصل الأمير على درجة عالية (أكثر من ٩٥٪) في تقييم البعض ممن تواصلنا معهم إلا أن الأمير حصل على درجة جيد (٦٥٪) في المقابلة ومضمونها، بتقييمنا الشخصي. من ناحية أخرى، نجح تركي الدخيل في المحاورة بتقدير مقبول وحصل على (٥٥٪) فقد كان المتوقع منه أكثر وأعمق، بينما حصلت العربية على درجة جيد جداً (٧٥٪). وسنستعرض أهم نقاط القوة ونقاط الضعف في المقابلة ومضمون الرؤية.
أبدع الأمير في تقديم نفسه وكانت الثقة بالنفس السمة الغالبة على شخصيته، وبالرغم من أن المقابلة مسجلة وليست مباشرة، إلا أنه كان متفوقاً على نفسه، كما يقول المثل. كان بسيطاً وأنيقاً في مظهره، حاضراً لبقاً لديه حسن الصياغة وحسن ترتيب الإجابات والمعلومات التي كانت متدفقة في ذهنه، والأهم من ذلك أنه كان “ممفصلاً” Articulate فتركيزه على الأرقام بدقة وبتنظيم لكي لا يساء فهمه أو يغلب على حديثه التعميم. إستطاع، أيضاً، أن يكسر حدة ورهبة الموقف بطرفة مع محاوره، تركي الدخيل، إنعكست إيجاباً على المتلقي حول شخصية الأمير الصارمة والإنسانية في نفس الوقت.
أقوى جملة قالها الأمير في المقابلة كانت في معرض حديثه عن إعادة هيكلة الدعم بأن الذين لا يرضون أو يرفضون التغيير “سيصطدمون بالشارع”. هذه الجملة فيها الكثير من القوة لصانع ومنفذ قرار يريد أن يطبق إصلاحات جوهرية على الجميع ولا يتردد بأن يبدأ بنفسه. القوة أيضاً في توجيه جملة “الإصطدام بالشارع” للأثرياء والأغنياء من الأمراء والوزراء، فئة المميزون أو المحصنون Untouchables الذين يشكلون القلة القوية الطاغية في كل مجتمع بسبب قوتهم الإقتصادية والإجتماعية. البدء بهولاء ينعكس على الكثرة في تنفيذ متطلبات التغيير. فتلك القلة القوية صاحبة الإمتيازات والمميزات موجودة في كل المجتمعات منذ الأزل، وستبقى إلى الأبد، وإجبارهم على الدخول في منظومة القانون والتنظيم أمر بالغ الأهمية والحيوية.
الشفافية والحديث عنها موضوع نجح الأمير في تناوله وإختيار الأمثلة الأصعب فيه، وهي أرامكوا ومشتريات الأسلحة التي طالما كانت المواضيع الأصعب في تطبيق الشفافية، كما تشغل بال كثير من النخب في المجالس الخاصة. لم يستنكف الأمير من ذكر الفشل في وزارات تحت ادارته مثل وزارة المياه والكهرباء، ووزارة الدفاع. إنتقد البذخ في النفقات العسكرية من جانب، كما إنتقد ضعف الأداء من جانب آخر، وكأنه يضرب مثال لبقية الوزراء والمسئولين، حول نقد الذات والخروج من الأسلوب القديم في رفض الإعتراف بالقصور والتقصير. أن يقبل الأمير برقابة الشعب في قضايا حساسة كالنفط والسلاح، ويشعر بأهميته نقطة متقدمة في الحكم والحوكمة والحكومة، ومبعث تفاؤل.
في الجانب الآخر، تحدث الأمير، وذكرت الرؤية خمس قضايا كانت الأضعف في الحديث والرؤية:(١) أن مستوى دخل الفرد السعودي من الأفضل في العالم، وهذا غير دقيق. فمستوى دخل الفرد الذي يقسم الناتج المحلي على عدد السكان لا يشكل معيار حقيقي لدخل الفرد السعودي؛ (٢) تذكر الرؤية أن نسبة تملك المساكن سترتفع من ٤٧٪ – ٥٢٪ وهذا متدني جداً؛ (٣) نسبة مشاركة المرأة هي متدنية جداً، أيضاً، اذ تذكر الرؤية إرتفاع النسبة ٢٢٪-٣٠٪ فقط؛ (٤) خفض نسبة البطالة ١١،٦٪ – ٧٪ هي نسبة مخيبة للآمال؛ (٥) أن الطموحات الكبيرة في الرؤية المستقبلية “ستبتلع البطالة” والمشاكل الأخرى، وهذا فيه شيء من الثقة المفرطة من جانب الأمير، فالبطالة أبتلعت حكام وأنظمة وحكومات ودول. البطالة وحش، والبطالة غول، والبطالة عدو مستدام، نأمل أن لا يتم الإستهانة بها.
المسكوت عنه في المقابلة مع الأمير الشاب “عراب” الرؤية المستقبلية، خلق حراكاً فكرياً في أوساط النخب السعودية وطرح تساؤلات. لكن يفترض أن يقدم برنامج التحوّل الوطني الذي سيعلن في غضون ٦-٨ أسابيع الكثير من الإجابات على بعض التفاصيل المهمة للمواطن. لكن تبقى البطالة هي المعيار الرئيس والمؤشر الأهم في تحديد ما إذا كانت الرؤية لجمع مزيد من السيولة في يد الحكومة، أو خلق مزيد من السيولة في جيب المواطن. خمس قضايا هي الأهم للمواطن في الحاضر والمستقبل هي بالأولوية كالتالي: العمل؛ السكن؛ الصحة؛ التعليم؛ والرعاية الإجتماعية.
لا يهم المواطن وجود متحفاً اسلامياً، أو إحياء الحضارات المندثرة في أرض الجزيرة العربية، أو أن تكون السعودية معبراً لبضائع العالم، أو أن تملك السعودية أكبر صندوق سيادي في الكرة الارضيّة. فكل ما سبق مستلزمات ديكور الرؤية والتحفيز، مايجب العمل عليه هو: عمل مناسب بدخل مجز؛ وإمتلاك بيت مريح وعصري؛ والحصول على أفضل رعاية صحية؛ ووجود تعليم يقدم المعرفة الحديثة؛ ورعاية اجتماعية للأقل حظاً. اجتهدت الحكومة في عمل شراكة مع القطاع الخاص، وهذا أمر ليس فيه تحدي، الإعجاز هو أن تتخذ الحكومة من القرارات ما يجبر القطاع الخاص على أن يعمل شراكة مع قطاع المجتمع بتوظيف المواطنين وإعتبارهم ميزة تنافسية وأن لا تنافسهم عمالة الكرة الأرضية سواء بكرت أخضر أو كرت أصفر، ويذهب أهل الكروت بالأجور.
تحدث الأمير عن أهمية التخلص من إدمان ما أسماه ثالث عناصر “الدستور”: الكتاب والسنة والنفط، وهذه ملاحظة لافتة وصحيحة وسأبني عليها بتصرف. فلدينا إلى جانب الكتاب والسنة المطهرة، التي ليست دستور، بالمناسبة، فهي تعلو على الدستور ولا يعلو عليها. لدينا النفط الذي يجتهد الأمير في معالجة الإدمان عليه، ولدينا العنصر الرابع وهو “العمالة الوافدة” التي أدمنها التجار في السعودية وحري بالأمير وفريق العمل معه أن يعملوا على التخلص من هذا الإدمان المشرئب في عروق وشرايين القطاع الخاص. أما العنصر الخامس، فهو أهمية إعادة تعريف “القيّم” وخلق قيّم جديدة ترتكز على عناصر الإنسانية العالمية، وإعادة تعريف مصطلح “المعتقدات” التي تبدو في معظمها ليست إلا قناعات تحولت بفعل الزمن والإيدلوجيا إلى مصطلح مقدس يضعه البعض عقبة كؤود في وجه التنمية والتقدم.
أخيراً تشكل الرؤية الإستراتيجية الإطار العام، ولم نتوقع أن تجيب عن كل الإستشكالات. فمن الجميل جداً أن يكون للسعودية رؤية للمستقبل، بصرف النظر عن مثاليتها من عدمه. يقول المثل الغربي: “إذا لا تعرف إلى أين أنت ذاهب، فكل الطرق تؤدي بك إلى هناك”. نجزم بأن الرؤية من المرونة بحيث يمكن تعديل أو تحوير بعض من أجزاءها أو مفاصلها. كما نهنيء أنفسنا بطروحات وحماس وسعة أفق الأمير الشاب الفطن محمد بن سلمان، وندعوا له بالعون والتوفيق، فسيواجه عنتاً كثيراً وعناداً كبيراً من مشجعي “إدارة الخيمة”. ختاماً، كانت مقابلة موفقة وجهد ناجح وطموحات تعانق السماء. يقول الشاعر: وإذا النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام. حفظ الله الوطن.