كتاب 11
أتحدى إبراهيم عيسى حول الجزر
يجادل إبراهيم عيسى في برنامجه الشهير “مع إبراهيم عيسى” على قناة القاهرة والناس، بكلام كثير ومفردات كثيرة ولغط كثير، ومنطق قليل، حول جزيرتي صنافير وتيران، ومع أنني من المتابعين والمعجبين بشخصية وموضوعات وأسلوب أستاذنا الإعلامي الكبير، إلا أنني أتحداه في أن يصمد لدقائق أمام الحق والمنطق، ناهيك عن صموده أمام الوثائق والخرائط والدستور التي تؤكد أن الجزر ليست مصرية وأنها سعودية. وبالرغم من معرفة إبراهيم عيسى البانورامية في الشأن المصري، وإستخدامه المتكرر للعديد من المفردات لتوضيح وجهة نظره كأسلوب للبيان والبلاغة، إلا أنه يكاد ينطبق عليه شطر بيت للعقاد: .. وجهولاً يملأ الأرض سؤالاً وجوابا”. وأنا أربأ بالإعلامي إبراهيم عيسى أن يكون جهولاً يبث الجهل من برنامجه الشهير.
لقد تناولنا قضية الجزر في مقال نشرته صحيفة أنحاء الألكترونية السعودية، وصحيفة “مصر ١١” المصرية، بعنوان “هل جزيرتي صنافير وتيران سعودية؟”. وأكدنا أنها سعودية، وأن لا خلاف بين الحكومتين السعودية والمصرية على ملكية الجزيرتين وأن سبب التأخير في إعادة الجزر للسعودية كان عامل التوقيت والظروف السياسية لكلا الدولتين. كما أوردنا معلومة لم تتناولها أي من الحوارات أو المقالات التي تمت بشأن الجزر، وهو أن الفريق علي علي عامر، والفريق عبدالمنعم رياض قد قدما إلى تبوك قبيل حرب ٦٧م لتقديم طلب بعودة جنود مصريين إلى الجزيرتين لحمايتها، وبعد تفاهمات سُمح للقيادة المصرية بذلك، مما حدا بالرئيس الراحل عبد الناصر بعد ذلك وفي مقطع الفيديو الشهير الذي تم تداوله حول تبعية تيران أن يصرح: “أن قواتنا عادت الأسبوع الماضي”.
لم يدقق إبراهيم عيسى في تلك الجملة، ولم يتساءل: إذا كانت الجزر مصرية ورحلت عنها إسرائيل بعد الإعتداء الثلاثي عام ١٩٥٦م، بعد تعهد مصري لأمريكا بحرية الملاحة في الممرات المائية، فلماذا لم يضع الجيش المصري جنود عليها مدة (١١) عاماً؟ نحن نجيب على هذا السؤال الذي لم يسأله إبراهيم عيسى. كانت مصر مشغولة بتصدير ثورتها في العراق وليبيا وسوريا واليمن، بعد النجاح النسبي للقيادة المصرية في حرب السويس. كان الإتحاد مع سوريا شغل مصر الشاغل ويشكل أهمية قصوى لعبد الناصر، كما شكل التدخل المصري في اليمن ودعم ثورة السلال منعطفاً إستراتيجيا للسياسة المصرية حينذاك. وبعد توقيع إتفاقية جدة بين الملك فيصل والرئيس جمال عبدالناصر في العام ١٩٦٥م، تفرغت السياسة المصرية إلى عمل شيء ما حول قضية العرب المركزية يعيد لمصر جزء من هيبتها التي فقدتها في اليمن. فبدأ التركيز على الصراع العربي الإسرائيلي.
لم يحاول إبراهيم عيسى أو أي ممن أدلوا بدلوهم حول الجزر أن يعودوا إلى الدستور المصري الجديد، لكي يعرفوا ويتأكدوا أن الدستور المصري يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن جزيرتي صنافير وتيران ليست مصرية، وأن ماقاله عبدالناصر حول جزيرة تيران أنها مصرية، وأن مضيق تيران مصري، ينفيه الدستور المصري جملة وتفصيلا. قد لا يذكر الدستور المصري أن الجزيرتين سعودية ولكنه يؤكد أنها ليست مصرية.
وذات الشيء ينطبق على إتفاقية ١٩٠٦م بين الإمبراطورية العثمانية والحكومة المصرية، لا تتعرض بأي شكل من الأشكال إلى الجزيرتين، لكن اللغط في الإعلام المصري إتخذ منهج التضليل، وكذلك أستاذنا القدير إبراهيم عيسى.
يحاول إبراهيم عيسى أن يعطي إنطباع بأن المواطن المصري مهتم بالجزر أكثر من إهتمامه بالأكل والشرب وأسعار الرز الذي لا يخلو بيت مصري منه، أو إرتفاع أسعار الشاي، النديم الدائم لكل مصري. لكننا نقول لأستاذنا إبراهيم، أنك أخطأت التشخيص. فالمواطن المصري يعيش أزمة ثقة مستحكمة خلال السنوات الخمس الماضية بفعل الإعلام والإعلاميين، الذين يناقشون أي شيء، ويفتون في كل شيء، ومعرفة كثير منهم لا شيء. أزمة الثقة هذه عبر عنها الرئيس عبدالفتاح السيسي بـ “الإنتحار القومي”، ونحن نطلق عليها مصطلحاً آخر وهو “السادية السياسية” لتوصيف ما يمر به المجتمع المصري في هذه الحقبة. وهو أن الإعلام المصري يقود مجتمع للعنف لتحطيم كل شيء، ومع هذا يستمتع الإعلام والإعلاميين بفعلتهم على أساس أن ذلك حرصاً وخوفاً على الوطن.
ذكرنا أزمة الثقة التي أنبأت عن نفسها في برامج الإعلام المصري، في مقال سابق بعنوان “الملك في مصر: بين الزيارة والتزوير” وقلنا أن “واحدة من إشكاليات هذا الشعب أنه أكبر من الدولة. فمصر دولة / أمة، وليست أمة / دولة، بمعنى أن الشعب سابق على الإطار السياسي، حسب تعريف البروفسور باري بوزان في كتابه ” الشعب والدولة والخوف”. وما أن قام الشعب بثورته في ٢٥ يناير ٢٠١١م، وهي الثورة الأولى في تاريخه الحديث، حتى دب شعور مختلف في داخله بأنه يستطيع تحطيم القيود ولم تمض فترة بسيطة حتى قام بثورته الثانية في ٣٠ يونيو ٢٠١٣م. فعلى مدى ٦٠ عاماً حكم مصر ثلاثة رؤساء، بينما خلال خمس سنوات فقط تغير حكم مصر ٤ مرات وثورتين وبرلمانين وثلاثة إستفتاءات وأدخل إثنين من رؤساءه السابقين والعديد من وزراءه خلف القضبان. وأزال جماعة الأخوان بعد (٨٠) عاماً من الوجود. هذا الشعور الجديد المنفلت والمتسارع ظهر معه شعور قوي مدمر بعدم الثقة في أي شيء وكل شيء.”
نتفق مع إبراهيم عيسى وغيره أن توقيت توقيع الإتفاقية كان سيئاً، حيث بدا للفرد العادي الغير مؤدلج أن في الأمر صفقة ما، وتبادل منافع. كما نتفق أيضاً مع الجميع أنه من المؤلم أن يستيقظ الشعب على أن أرض مصرية أضحت سعودية. كما نتفق مع كل المتابعين الذين صدموا بالخبر وهم يبنون قناعاتهم على مواد في المقررات الدراسية، وموقع وزارة البيئة ان الجزيرتين محميات طبيعية. لكننا لا نتفق مع التشكيك في الجميع: الرئيس، والحكومة، والبرلمان، ورموز مصر من الخبراء من أمثال د. مفيد شهاب، الذي يطالب أحد مقدمي البرامج بشهادته، وبعد أن حضر وأدلى بشهادته، يحاول إبراهيم عيسى أن يطعن في ذلك بشكل إزدراء غير مبرر. حتى محمد حسنين هيكل، رحمه الله، الذي كان موقفه المعارض للسعودية معروفاً، أكد سعودية الجزيرتين.
يعلم إبراهيم عيسى مثل غيره أن القناعات الراسخة في العامة يصعب تحويلها وتبديلها، ولسنا بحاجة إلى تعداد الأدلة على ما عانى منه الأنبياء والرسل لدى أقوامهم. فبالرغم من كل البراهين التي أتى بها موسى عليه السلام، إلا أن قومه تمادوا في طلب المزيد، وكذلك المعاناة لنبي الله عيسى عليه السلام، ومثلهم الرسول الأعظم محمد (ص). فعندما تترسخ القناعات تصعب الإقناعات. وبحكم أن أستاذنا إبراهيم عيسى من محبي المفردات والمصطلحات، نطلب منه أن يبحث في “القناعات”، و”الإقناعات”، وإرتباطها بـ “القناع”، الذي يحجب الرؤية عن البصر والبصيرة أحياناً، وهذا ما يؤديه الإعلام وما يمارسه الإعلامي الكبير إبراهيم عيسى.
يحاول أستاذنا الفاضل إبراهيم أن يبسط الأمر في قضية الجزر ويطالب بالعودة للدستور، وإجراء إستفتاء، وهذا تبسيط مخل، أو “كلمة حق مراد بها باطل”. فهو يخالف الدستور حول الإجراءات بالمرور عبر البرلمان، من ناحية، كما أنه يشكك في البرلمان وذمة أعضاءه وقدرتهم على التصديق من عدمه، من ناحية أخرى. هنا نسأل إبراهيم عيسى: هل من المنطقي إجراء إستفتاء على مالا يملكه الشعب المصري أو الدولة؟ الإستفتاء ممارسة سيادية للشعب فيما يخصه، ولا يمكن بأي حال من الأحوال إستفتاء الشعب على الجزر وهي تابعة لدولة أخرى. نتائج الإستفتاء عادة تكون بنعم أو لا. فهل يريد إبراهيم عيسى أن تقوم الحكومة بطرح إستفتاء على الشعب المصري بسؤال: هل نمنح جزيرتي صنافير وتيران للسعودية؟ أجب: بنعم أو لا. او يتم طرح سؤال: هل نعيد جزيرتي صنافير وتيران للسعودية؟ لا حظ كلمة “نعيد”.
يمرر إبراهيم عيسى مقولة الدم المصري وأن هناك عدد من الجنود المصريين سال دمهم وإستشهدوا دفاعاً عن الجزيرتين. حسناً، نقول رحمهم الله أولاً، ورحم الله كل الجنود المصريين الذين سالت دماءهم في غزة واليمن والكويت والعراق وسوريا ومناطق كثيرة من العالم العربي. ونتساءل، هل دماء شهداء مصر في الدفاع عن غزة في العام ١٩٤٨م يعطي مصر الحق في تملك غزة؟ أو تملك اليمن أو الكويت؟ يامولانا إبراهيم عيسى، تهييج الشعب المصري غير جائز أخلاقياً أو مهنياً، ناهيك عن تضليله بأحداث ووقائع ومغالطات. الشاشة التي تطل منها خمس مرات أسبوعياً يتابعها ملايين المشاهدين، ويمكنك أن تكون مميزاً بإنتهاج منهج يساعد على زيادة حجم المصداقية لما تقوله وتدافع عنه في قضايا أخرى.
أخيراً، أنا أتحدى إبراهيم عيسى في قضية الجزر وعلى الهواء مباشرة، وله أن يأتي بمن يشاء في فريقه، شريطة أن يعترف بالنتيجة من دون مواربة أو خجل، وأن لا يستنكف من الإعتذار عن سوء فهمه. سيشهد الجميع أن الدستور المصري والوثائق والخرائط ومذكرات التفاهم كلها تؤكد ملكية السعودية. فالحكومة المصرية لم تفرط بشبر واحد، كما أنها لا تريد أن تَخَلَّق قضية تحكيم دولية من لا قضية، وهي تعلم أن الحق أحق أن يتبع. ختاماً، الكرة في ملعب أستاذنا إبراهيم عيسى، فأما أن يقبل التحدي، أو يستمر في “جنازة يشبع فيها لطم”. حفظ الله الوطن.
كاتب سعودي
الفريق سعيد العمري والفريق عبدالمنعم رياض في زيارة قبل حرب ٦٧م للتفاهم حول وضع جنود على الجزر