كتاب 11

11:21 صباحًا EET

الملك في مصر: بين الزيـارة والتزويـر

أنهى الملك سلمان زيارته التاريخية لمصر، والتي ذكرنا أنها نجحت بكل المقاييس في مقال سابق، لكننا إكتشفنا أن الزيارة لم تنجح بأي مقاييس، وأن ما كتبناه كان تفكير بالتمني، وما كل ما يتمنى المرء يدركه. النجاح يعني تحقيق الغاية، والزيارة الملكية لم تحقق غايتها المنشودة. لم تنجح الزيارة بسبب أزمة تعيشها مصر هي من أكبر أزماتها على الإطلاق وهي أزمة الثقة في الوعي الجمعي وفي داخل الفرد المصري تنهشه وتحيل حياته إلى بؤس وشقاء. ولكي لا نلقي باللائمة كلها على الشعب المصري، أو نعلقها على المؤامرة كعادتنا العربية المجيدة، نحمل السفير السعودي في القاهرة أحمد قطان جزءاً كبيراً من المسئولية في عدم نجاح الزيارة. أما التزوير فقضية القضايا ولنا معها وقفة في هذا المقال.

يسكن أرض مصر شعب عظيم عاش ألاف السنين بين الماء والصحراء، وسبق اللغات، وصنع الحضارات، وإرتبط بكافة الرسالات. لكن واحدة من إشكاليات هذا الشعب أنه أكبر من الدولة. فمصر دولة / أمة، وليست أمة / دولة، بمعنى أن الشعب سابق على الإطار السياسي، حسب تعريف البروفسور باري بوزان في كتابه ” الشعب والدولة والخوف”. وما أن قام الشعب بثورته في ٢٥ يناير ٢٠١١م، وهي الثورة الأولى في تاريخه الحديث، حتى دب شعور مختلف في داخله بأنه يستطيع تحطيم القيود ولم تمض فترة بسيطة حتى قام بثورته الثانية في ٣٠ يونيو ٢٠١٣م. فعلى مدى ٦٠ عاماً حكم مصر ثلاثة رؤساء، بينما خلال خمس سنوات فقط تغير حكم مصر ٤ مرات وثورتين وبرلمانين وثلاثة إستفتاءات وأدخل إثنين من رؤساءه السابقين والعديد من وزراءه خلف القضبان. وأزال جماعة الأخوان بعد (٨٠) عاماً من الوجود. هذا الشعور الجديد المنفلت والمتسارع ظهر معه شعور قوي مدمر بعدم الثقة في أي شيء وكل شيء.

أدركت السعودية هذا الشعور المتنامي والمتسارع والمتصارع كمعاناة يعانيها الشعب تعصف بالدولة وأمنها وإستقرارها، فقررت الوقوف الى جانب مصر بكل إمكانياتها السياسية والدبلوماسية والإقتصادية والإعلامية، وعادت من يعادي مصر، ولم تشاء أن تحمل مصر الدولة، أو الحكومة مالا تحتمل أو تطيق في ملفات وأزمات تعصف بالمنطقة. وجاءت الزيارة الملكية لمصر بعد لقاءات كثيرة بين القيادتين تم خلالها دراسة كل جوانب تثبيت الإستقرار الداخلي كأساس لأي عمل سياسي. وذهب الملك إلى مصر التي في خاطره، وقبلها عيّن إبنه وولي ولي عهده، لكي يترأس اللجنة السعودية المصرية التي تتولى كافة شئون العلاقات. ورافق الملك في الزيارة أكبر وفد رسمي على الإطلاق من الأمراء والوزراء والمسئولين، وتم توقيع العديد من الإتفاقيات في حفل مهيب، لكي يشهد الشعب المصري بأكمله توثيق علاقة الحب بين شعبين وحكومتين ودولتين.

كانت الزيارة الملكية مرافقة لهدايا من السعودية لشعب مصر في كافة المجالات: الإسكان والتعليم والصحة والعمل والإعلام. كان بالإمكان أن تتم كافة المشاريع والدعم في إتفاقية شاملة واحدة، وكان بالإمكان توقيعها في الرياض في أحد زيارات الرئيس عبدالفتاح السيسي أو رئيس الوزراء، لكن التقاليد العربية تفترض أن تقدم الهدية بنفسك للمهدى إليه عندما تزوره. فالدعم السعودي للقوات المسلحة المصرية في الطائرات والفرقاطات وحاملة الطائرات تم في ظروف مختلفة. كانت هناك أهداف أخرى ورسائل أخرى تحملها الزيارة للخارج المصري من المشككين والحاقدين، لكنها أهداف فرعية وليست غاية رئيسية. فالملك زار مصر زيارة محب يحمل هدايا للشعب المصري الذي عانى وتعب وأنهكته السياسة والسياسيين. فالزيارة للشعب، والدعم للشعب، والتنمية للشعب. هكذا يظن الناس، وهكذا نظن، وخاب ظني.

توقيع إتفاقية تعيين الحدود البحرية، وإعادة جزيرتي صنافير وتيران السعودية الملكية والسيادة، إستثارت مكامن الشك في الشارع المصري بتأجيج غير مسبوق من الإعلام، حتى قبل أن يجف حبر التوقيع على الإتفاقية. كنّا نظن أن الأصوات التي إعترضت أو تساءلت أو إستشكلت هي من فئة المعارضة الأخوانية وما حولهم، أو من أعداء النجاح لكن الأمر كان واسعاً وشاسعاً ومحتقناً حتى شمل أطياف وأصناف من المجتمع المصري، حتى أن الرئيس عبدالفتاح السيسي أطلق عليه “الإنتحار القومي”. بات الوعي الجمعي للشعب المصري يشك في الرئيس وفي الحكومة وفي الجيش وفي البرلمان، حتى تأزم الفرد المصري وأمسى محاصر في كل وسائل الإعلام التليد والجديد بالشك. وهنا نقول أن هذه الإتفاقية والتخوين فيها مسح الزيارة الملكية وغايتها بـ “أستيكة”.

يتحمل السفير السعودي في القاهرة أحمد القطان جزءاً كبيراً من المسئولية في عدم نجاح الزيارة وعدم تحقيق غايتها الأسمى وهو إسعاد الشعب المصري، وتطمينه على مستقبله، وزيادة حجم الثقة في ذاته، وبينه وبين قياداته السياسية، فضلاً عن ثقته بالسعودية ملكاً وحكومة وشعبا الذين برهنوا على حبهم لمصر بوسائل شتى. من أهم مسئوليات السفير هو قراءة المجتمع الذي يعمل فيه، ولا يقتصر عمله على معرفة أسماء الوزراء والمسئولين وتوجهات الحكومة فقط. ويمكن لأي مراقب من خارج مصر، ناهيك عن من هو بداخلها ويعمل فيها، أن يدرك مزاج وتفكير المجتمع المصري من خلال الصحافة والإعلام الذي يقول أي شيء وكل شيء ويفتي في كل أمر. كان حرياً بالسفير السعودي أن يقدم النصح لوزير الخارجية السعودي والحكومة ولولي ولي العهد، وللملك لو لزم الأمر، بأن توقيع إتفاقية تعيين الحدود ستستثير الشارع المصري وستفسد المزاج المصري مما يؤدي لعدم نجاح الزيارة، كما أن تأجيل إعلانها قد يكون من الأفضل لئلا يتم الربط بين الإتفاقيات والمساعدات وعودة الجزر.

كان الرئيس عبدالفتاح السيسي يتحدث بألم في إجتماع الأسرة المصرية يوم الأربعاء، وذكر أنه تلقى كل ذلك التشكيك والإتهامات بما يشبه الطعنات في صدره من شعب منحه ثقته. وتحدث الرئيس عن عامل الشك وأزمة الثقة التي تعبر عن نفسها ليس في الأزمات، بل خلقت وتخلق أزمات مع دول وشعوب أخرى. كان الرئيس يتحدث بثقة عن السعودية أكثر من ثقته بشعبه في أن السعودية لن تقابل التصعيد بالتصعيد، ولن تقابل التخوين بالتخوين، وحاول أن يلملم الموضوع كأعلى سلطة في مصر. لكننا نقول لفخامة الرئيس أن ما ظهر من تشكيك وما صاحبه من مصطلحات وغمز ولمز يؤلمنا في السعودية كشعب فذلك لا يدل إلا إلى حقد دفين سيترك أثاره ندوباً في جسد العلاقات السعودية المصرية: فظلم ذوي القربى أشد مضاضة *** على المرء من وقع الحسام المهندِ.

ألقى الدكتور أيمن نور بالطامة الكبرى على الزيارة الملكية، عندما نشر وثائق مزورة على حسابه في تويتر بـ (١،٧) مليون متابع، مفادها أن السفارة السعودية في القاهرة ستقدم هدايا ملكية عينية ونقدية للرئيس، ورئيس الوزراء، ورئيس البرلمان، وأعضاء البرلمان الذكور والإناث، والوزراء، والصحفيين والإعلاميين، وجميع العاملين بالمؤسسة الرئاسية المصرية، “ياخبر أبيض!!!”. وأعلن أنه سيتحدث عنها في برنامج معتز مطر بقناة الشرق وهكذا فعل، وأرسل نسخة من الوثائق المزورة للبرنامج الذي أعلن مقدمه مسئوليته بالتضامن. لم تكن الوثائق مزورة بإحتراف بل “بشكل بدائي جداً”، حسب تعبير مسئول في الخارجية السعودية تواصلنا معه. إتهام أيمن نور لمن ذكرناهم سابقاً وبحجمهم وعددهم ومناصبهم هو سقطة وسُبة لكل مصر، وهم من سيدافعون عن أنفسهم في القضاء المصري. أما ما يخص السعودية فلا يملك الدكتور أيمن نور أو الدكتور عبدالله الأشعل أو أي أحد غيره، أن يمسها بالتجريح تلميحاً أو تصريحاً لتسوية خلافات سياسية أو مطامع شخصية. وأظن أن السفارة السعودية والسفير سيتخذون رد الفعل المناسب إعلامياً وقانونياً، أو هكذا يجب.

أخيراً، كانت فرحتنا بالزيارة الملكية وما تضمنته من دعم هو أن المساعدات الخارجية السعودية بدأت في الطريق الصحيح وهو الإستثمار في الشعوب وليس الحكومات والأنظمة والحكام، لكن “يافرحة ماتمت” كما يقول أخواننا المصريين في المثل. قتل الشك وعدم الثقة في النفس في الفرد المصري كل ذرة تفاؤل وأمل ومعنى للخير والإخاء. باتت السعودية في الذهن المصري “فلوس”، وأصبح كل من يقدم خير لمصر مثل الشعير “مأكول مذموم”، وأضحى الإعلام المصري يبحث بمكر عن مايثير الشارع المصري ليبحث عن “جنازة يشبع فيها لطم”. ختاماً، ستبقى مصر عظيمة، وستسمر السعودية عظمة على عظمة، فالكبير كبير، والصغير صغير، والنص نص. وبمناسبة إتفاقية تعيين الحدود، نهدي الشعب المصري أغنية أم كلثوم “للصبر حدود”.

كاتب، ومحلل إستراتيجي

التعليقات