أفضل المقالات في الصحف العربية

09:11 صباحًا EET

الثلاثون من يونيو وثنائية الإذعان لحكم المرشد او إراقة الدماء

 
أيام معدودة تفصلنا عن الثلاثين من يونيو، ومرور عام على حكم مكتب الإرشاد، ووصول ممثله إلى سدة الرئاسة بطريق الاقتراع السري، أي بأصوات ناخبين يمثلون مكونات وطوائف الشعب، ومعنى هذا أن مرسي لم يأت بإرادة قوى خفية أو خارجية، وكان من المفترض أن تكون المناسبة احتفالية احتفاء بشعب ثار وضحى من أجل الانتقال ديمقراطيا وسلميا من الاستبداد والفساد والتبعية، والتحرر من ذلك الثالوث الكريه، وكان من الممكن أن تكون هذه الذكرى فرصة للتقييم وقياس درجات النجاح ومآلات الإخفاق، وهذه الفرصة لم تأت بفعل العجز وركام التوتر ومستوى الاحتقان الزائد، والمشاكل المتفاقمة والأوضاع المنفلتة، وبتأثير ذلك يعيش الناس إحباطا غير مسبوق. والسبب أن مكتب الإرشاد الذي أدار الحكم تخلى عن العقل والحكمة والعدل، وأقام حكمه على قاعدة ‘الصدام هو الحل’، ليلبي متطلبات التمكين والاستحواذ، وواجه الثوار بعنف مفرط واغتيالات ممنهجة لهم ولرموزهم، وسقط منهم مئة شهيد وآلاف المصابين والجرحى، ومثلهم من المعتقلين والمختطفين والمحبوسين، وهذا في أقل من عام من حكم مكتب الإرشاد.

ومهما كان إنتماء المواطن الذي يبدي وجهة نظر أو رأي فتهمة ‘العداء للمشروع الإسلامي’ جاهزة طول الوقت؛ لا تستثني أحدا، لكن مشكلة هذا المشروع هو أن الناس تسمع عنه ولا تراه، وقد يكون غير موجود، وإذا وجد فلا يُعلن عنه إما خوفا أو حرجا!!.والأكثر جنوحا كان ذلك ‘الانتحار’، الذي تمثل في إعلان الحرب على سورية باسم ‘الجهاد’، بعيدا عن سلطات الدولة ومؤسسات الحكم، وكأن هناك سلطات ومؤسسات موازية أوكلت إليها مهمة الحرب، وإذا كان في مصر حكم رشيد فالأولى به أن يخفف من معاناة الشعب السوري ويحقن دماءه، لكن يبدو أن هذا ثمن مطلوب مقابل الدعم الأمريكي لاستمرار الإخوان في الحكم. وأتذكر مقالا كتبته من سنوات في معمعة ‘الجهاد’ الأفغاني، وكان بعنوان ‘مجاهدون في أفغانستان إرهابيون في فلسطين!!’ في محاولة لسبر أغوار ذلك الجهاد الأمريكي ‘الحلال’، وإثبات أن الجهاد ‘الحرام’ هو الذي لا يقترب من قريب أو بعيد من فلسطين والقدس المحتلة، كي يمحو عارنا هناك.ومن مهام الجهاد مع الجانب الأمريكي ‘الحلال’ هو قطع أشواط مطلوبة في مخطط إبادة العرب والمسلمين، ومن على شاكلتهم، وهو جزء لا يتجزأ من عملية ‘التدمير الذاتي’ التي تستهدفنا جميعا، وقد أُسقِطنا من الحساب.ومن الملاحظ أن حكم مكتب الإرشاد قطع شوطا كبيرا في مجال ‘التدمير الذاتي’؛ كمرحلة لازمة تسبق الإبادة الشاملة، ويمثل ‘التدمير الذاتي’ انتكاسة للطور الذي وصلته الأمة؛ وها هي تتحلل إلى طوائف ومذاهب وعشائر، وكانت قد تجاوزتها. وأتى الاقتتال البيني والحروب الأهلية وعسكرة الثورات لترسيخ هذه الانتكاسة والعمل على إدامتها، وهو ما أثلج صدر كاتب صهيوني بارز في صحيفة ‘يديعوت أحرونوت’ هو أليكس فيشمان، نشر رأيا في الرابع عشر من هذا الشهر، ولخصه في عبارة موجزة هي ‘دع العرب يقتلون بعضهم البعض بهدوء’.ودعا هذا الكاتب والمحلل العسكري الصهيوني حكومته لترك العرب يتقاتلون ‘لأن أي تدخل من جانب الدولة الصهيونية يوحد العرب ضد عدوهم التاريخي، أيْ دولة الاحتلال’. وأشار فيشمان إلى ما يفعله العرب بأنفسهم: ‘في كل يوم يُقتل في الدول العربية في حدود من 400 إلى 500 إنسان؛ في طرابلس لبنان يجري قتال يومي، وفي سورية يُقتل في الحد الأدنى 80 شخصًا’.ومصر وصدام جماعات العنف الطائفي ضد مسيحيين، ومحاربة الإخوان المسلمين للسلفيين، والبدو يصطدمون بالأمن والجيش في سيناء. وقنبلة المياه التي فجرتها أثيوبيا، وشروعها في بناء سد النهضة على النيل الأزرق؛ وهو النهر الذي يمد مصر بـ 80 في المئة من مواردها المائية. واعتبر فيشمان أزمة مصر مع الدولة الصهيونية هامشية مقارنة بأزمة المياه مع أثيوبيا. وعرج على ليبيا وفيها تذبح القبائل والعصابات المسلحة بعضها بعضا ولم يعد في مقدور الليبيين إحصاء جثث قتلاهم، وفي تونس يحظر التجول في المدن الكبرى ليلا. ويُقتل الجنود التونسيون في الحرب الدائرة ضد السلفيين على حدود الجزائر. وأضاف أن العراق بات مقسمًا إلى ثلاثة كيانات؛ تتجدد فيما بينها حرب أهلية طاحنة، وتجاهل الحديث عن الصومال وتشاد والسودان وعدن والبحرين؛ مبينا أن بلاد العرب تحترق على مدى السنتين الماضيتين، وتفني نفسها دون تدخل خارجي، وهو ما قد يستمر سنين طويلة، ووجه انتقادا لكبار الضباط الصهاينة الداعين للحرب، وأوصاهم بألا يمنحوا العرب سببًا للاتحاد حول ما أسماه القاسم المشترك الوحيد بينهم، وهو عداوة الدولة الصهيونية، وقال قولته التي صارت مثلا ‘دعوهم يقتلون أنفسهم بهدوء’.وبالتجربة أعلم بأن غالبية المنتسبين للتيارات الطائفية والمذهبية والعشائرية يعادون الثقافة ويحجمون عن القراءة، وكم صدمت منذ سنوات عندما سمعت رجل دين؛ كان وما زال بعد رحيله ملء السمع والبصر يصرح بأنه لم يقرأ كتابا منذ أربعين عاما غير القرآن، وتلك التيارات لا تعترف إلا بـ’العلم الشرعي’؛ وهو لديهم قشور ومختصرات من رسائل وفتاوى ابن تيمية وأبو الأعلى المودودي وأبو الحسن الندوي الندوي ومحمد بن عبد الوهاب، ولا علاقة لها بعلوم الدين والفقه والتفسير، التي تدرس في الأزهر الشريف، أما علوم الفلك والطبيعة والكيمياء والطب والهندسة والرياضيات والاجتماع، وكان للعرب فيها باع طويل، وفضل السبق في ظهور علم الاجتماع، ونقله عنهم الأوربيون إلى باقي أنحاء العالم. وأضحت هذه علوما غير مستحبة، وترتب عليها إنقسام السلفيين إلى كثرة تحسب على معسكر الإيمان وقلة وضعت في زمرة ‘الكفر’، وتسبب ذلك في هجرة أطباء ومهندسين وزراعيين وعلميين وبيطريين لتخصصاتهم إلى مجال ‘الدعوة’، وعملوا على سد الطريق أمام المتفقهين من رجال وعلماء الأزهر.!!والبون شاسع بين سلفيي ‘النقل’ من ‘العلوم الشرعية’ وسلفيي ‘العقل’ الباحثين في العلوم الطبيعية والإنسانية. ولو رجعنا إلى التجربة التاريخية في الأندلس وامتدادها المعاصر في مأساتنا الفلسطينية لعرفنا دور ملوك الطوائف ودعاة الفتن في فتح أبواب الإبادة المنظمة للعرب والمسلمين. والمكتبات مملوءة بإصدارات جادة وموثقة تكشف هذا المخطط، نختار منها كتاب ‘أمريكا والإبادات الجنسية’ للباحث الأمريكي العربي منير العكش، وصدر العام الماضي عن دار نجيب الريس؛ يلخص الكتاب طبيعة الحرب الدائرة على مدى 400 عاما؛ من تنكيل وقتل وإخصاء وتعقيم، ولم يقتصر ذلك على الهنود الحمر، الذين فقدوا 114 مليوناً منذ اكتشاف العالم الجديد في أمريكا الشمالية، وشمل ملونين وأعراقا أمريكية لاتينية وآسيوية وافريقية، وعربية وأفغانية وفيتنامية وكورية ويابانية وفلبينية، وبين الكتاب أن الإبادة لم تكن صدفة مستشهدا بوثائق ومراجع أمريكية رسمية، ‘لقطع نسل ربع نساء العالم، القادرات على الإنجاب، وبينهن مؤخراً 14 مليون ضحية أمريكية’ بشهادة مدير مكتب السكان بالحكومة الاتحادية الأمريكية.وكشف الباحث أن ثقافة الإبادات قامت عليها فكرة بناء أمريكا؛ المستمدة من فكرة ‘إسرائيل التاريخية’ وسادت على مدى أكثر من 400 سنة، والهولوكوست الأمريكي قائم منذ قيام الولايات المتحدة بشهادة الفيلسوف اليهودي ستيفن كاتز.ورأت الإدارات الأميركية المتعاقبة وهي تواجه الشيوعية أن العقدة هي زيادة السكان، وما يترتب عليها من فقر. وتمثل الحل في إبادة الفقراء واستئصال الأرحام. وينسب للأمير فيليب زوج ملكة بريطانيا اليزابث الثانية قوله ‘لو قدر لي ان أتناسخ وأبعث من جديد لتمنيت أن أكون حشرة فتاكة تساهم في حل مشكلة التزايد السكاني’! وهناك اقتباسات عديدة لا يتسع لها المجال؛ تؤكد أن فكرة ‘شعب الله المختار’ اليهودية لم تعد مجرد هلوسات عنصرية تنسب زورا إلى السماء، بل أضحت مادة علمية يختص بها علماء الجينات والوراثة العنصريين في الولايات المتحدة.وعن إبادة العرب ورد في فصل عنوانه: ‘أولاد اسماعيل رمز الانحطاط البشري’، نقلا عن نص مزيف في التوراة يصف اسماعيل بالوحش البشري؛ حتى أن عضو الكونغرس ‘سام جونسون’ تمنى في 19 فبراير 2005 أن يقود طائرة مقاتلة من نوع أف 15 برأسين نوويين في طلعة واحدة يتخلص فيها من كل ما اسمه سورية’(!) معبرا بذلك عن بشاعة الفكر العنصري الأمريكي وانحطاطه!!.ومن الصعب تبرئة أهل الحكم في مصر من الضلوع في ذلك المخطط، ونصيبهم فيه، ولا عذر للعالمين ببواطن الأمور، وعذر غير العارفين بالمخطط هو جهلهم، وإن كان القانون لا يعفيهم من المسئولية لأنه ‘لا يحمي المغفلين’ أي الغافلين وغير المطلعين على نصوصه، أما رؤوس الفتنة وأباطرة العنف من المطلعين والعارفين فجريمتهم لا تغتفر.وعليه فإن التحالف الإخواني الأمريكي يجر مصر إلى كارثة محقة، يجب أن تواجه من قبل الثوار بتعبئة الشعب، ورفع درجة وعيه، وانتهاج السبل السلمية في التغيير بعيدا عن العنف وإراقة الدماء، وهذا قد لا يرضي مكتب الإرشاد وحلفاءه، الذين يستميتون لحصر خيار المصريين في ثنائية من الثنائيات المزيفة المعتادة؛ إما الإذعان لحكم المرشد أو الدم والاحتراب الأهلي، وهي من الثنائيات المضللة، وتبثها أبواق الدعاية المعادية للثورة، وهو ما شرحناه في مقالات سابقة، وتعدد الخيارات يجعل تنحي مرسي والانتخابات الرئاسية المبكرة حلا لأزمة مصر الراهنة، وهذا هو خيار الشعب الذي استجاب والتف حول حملة ‘تمرد’، وجعل عملها مشاعا مملوكا لشعب بأكمله؛ تواق لاستئناف بناء مجتمع ديمقراطي لدولة مدنية لكل مواطنيها دون تمييز، وبها يستعيد الشعب لياقته وتتجدد الثورة فتتصدى لمخطط الإبادة الموجه لمصر والعرب والمسلمين ومن هم على شاكلتهم.
 

التعليقات