أفضل المقالات في الصحف العربية

08:09 صباحًا EET

العدوان على سوريا واقتراب نيرانه من مصر

كانت مصر عشية العدوان الصهيوني على سورية – وما زالت – غارقة من رأسها إلى اخمص قدميها في صراع عبثي بين وهابيين يأتيهم المال والسلاح والبشر بلا حساب، وشيعة لا حجم لهم ولا عدد، وبين مدعين قضوا على روح الدين السمحة والإنسانية واعتدالها وانفتاحها، وامتلأت محافظات جنوب مصر السياحية بالملصقات الوهابية والمذهبية الداعية لمنع السياحة الإيرانية، وركزت خطب الجمع ودروس الوعظ وفضائيات الفتنة على تعبئة البسطاء ضدها، وكأن الشيعة ليسوا مسلمين؛ يختلفون فقط في المذهب لا في جوهر الدين.

لم نعرف يوما أن من يمولون الحملة ويحرضون عليها قاطعوا أفواج السياحة الوافدة من تل أبيب، ومع ذلك تسمعهم على قنوات الفتنة يدعون أن الشيعة أخطر من الصهاينة، وعدد الشيعة المصريين وفق أكبر تقدير لا يتعدى خمسة وثلاثين ألف مواطن، في بحر من البشر تعداده تسعون مليون نسمة، غالبيتهم من السنة المحبين لآل البيت، ولذلك يوصفون بأنهم أصحاب هوى شيعي، وآخرون من مذاهب شتى؛ بما فيها أتباع المذهب الأباضي، في الواحات والوادي الجديد وصحراء مصر الغربية، بالإضافة إلى مسيحيين؛أرثوذوكس وكاثوليك وبروتستانت!!والمدقق يكتشف أن ما يحدث مع الشيعة المصريين وجه من وجوه المعركة الوهابية المستعرة ضدهم، ويبدو أن دعاة هذه المعارك والحروب والمحرضين عليها هم من هللوا وكبروا فرحا وغبطة بالعدوان على دمشق، وهم جزء من معركة متشعبة؛ طائفية مذهبية إيرانية سعودية تركية أمريكية صهيونية؛ مشدودة لقطبين كبيرين؛ يتواجهان على أرض الشام؛ قطب غربي صهيوني، ورأس حربته المؤسسة العسكرية الصهيونية، وتغذيها روافد إسلامية وعربية ومحلية. وقطب أورو أسيوي ورأس حربته حزب الله والمقاومة اللبنانية، وأنصاره أيضا مسلمون وعرب وعجم.كل هذا نقوله والمعلومات المتداولة عن الحقائق على الأرض السورية، رغم كثافة الأخبار عما يجري فيها، واقعة في أسر التهويل أو التهوين، وغاب المصدر الموثوق الذي يمكن الاعتماد عليه في تقييم موضوعي لما يجري، وكنت لفترة طويلة اعتمد على مصادر معارضة الداخل؛ الممثلة في ‘هيئة التنسيق الوطني لقوى التغيير الديمقراطي’، وقد ضعف التواصل وقلت المعلومات، وقد كان سبب الاعتماد على ذلك المصدر هو موقفه المبدئي الرافض للتدخل الخارجي، ومطالبته في نفس الوقت بتغيير الحكم وسياساته دون أن يكون ذلك التغيير على حساب وحدة التراب السوري، أو على حساب تقسيم الشعب وإلغاء وجوده تحت أي مبرر. وكانوا في هذا يقبضون على جمر ‘الحل الوطني الديمقراطي’، الذي لا يجد مناخا داخليا ولا عربيا أو إقليميا أو دوليا مواتيا.ومن يعمل في مثل ذلك المناخ محكوم بمعادلة شديدة التعقيد، بسبب الاندفاع المحموم لـ’هدم المعبد’ على كل من فيه، وهي مهمة جارية يتم تنفيذها حتى لو بقي الحكم ولم يسقط بشار الأسد، هذا رغم قناعتنا بضرورة التغيير كحق ديمقراطي وسياسي وإنساني يستحقه السوريون بتاريخهم العريق، ودورهم الفاعل في منظومة الأمن القومي العربي، ولا يجب استغلال تطلع السوريين المشروع إلى الحرية والعيش الكريم والحياة الأفضل؛ المبرأة من أدران الاستبداد والفساد والإرهاب؛ ولا يجب تشويه هذا التطلع واتخاذه مبررا لهدم الدولة السورية، وهو عمل تتبناه وتحبذه الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي وتركيا والدولة الصهيونية ، ومن يدور في فلك هذا المحور؛ من حكومات وجماعات وفرق حزبية وطائفية ومذهبية وأجهزة أمنية ومليشيات وقوات عسكرية نظامية!ولا يمكن الإشارة إلى العدوان الصهيوني على سورية بمعزل عن ما تابعناه من مقدمات سبقته في الأشهر والأيام الأخيرة؛ وتواطؤ وفد جامعة الدول العربية إلى واشنطن؛ ووضعه آخر مسمار في نعش جامعته، ليفقدها مبرر وجودها، ويجعلها اسما على غير مسمى، ويحولها لرديف للمشروع الصهيو غربي، وهو يعيد رسم خرائط الوطن العربي في بناء الشرق الأوسط الجديد، ويفك ارتباط الدولة بمواطنيها واستبدالها بجمعيات ومنظمات غير حكومية، وكيانات سياسية وجغرافية بدائية؛ بأشكال وصور متنوعة؛ من القبيلة والعشيرة والطائفة والمذهب والمنطقة وتتغذى على الفتن، وتزكي التناحر والتطاحن، ولا تساهم في نشر التسامح والتكامل والاستقرار ولا تعمل على تحصين المناعة السياسية والوطنية.حمل ذلك الوفد معه وهو في طريقه إلى البيت الأبيض ‘مبادرة السلام الرسمية العربية المعدّلة’؛ كتنازل جديد ضمن مسلسل تنازلات لا يتوقف عن حقوق العرب في أرضهم؛ بما فيها وعليها من بشر وأصول وثروات منذ الهدنة الأولى1949 وخصوصا حق الشعب الفلسطيني في تحرير أرضه وإرادته وإقامة دولته عليها وعودة لاجئيه إليها، وكلها من أجل حماية الدولة الصهيونية؛ بسياسات العرب وأموالهم وحروبهم البينية. والعرب ينكمشون وعدوهم يتمدد، ويضعفون وخصمهم يقوى، مقابل المزيد من الضعف والهوان والقبول بانتهاك الحقوق وضياع الأرض وانتشار المستوطنات غير المشروعة، وتهويد المدن والقرى والبلدات.دعت هذه المبادرة البائسة إلى استبدال أرض عربية بأرض عربية أخرى، بكل ما يحمل ذلك من معاني التفريط المجاني، وهذه المبادرة تخرج إلى النور والوطن العربي يعيش تحولات كبرى، وحراك لا يتوقف لتحرير إرادة الشعب ودفعه للإمساك بزمام أموره، والتمسك بحقوق مواطنيه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والوطنية والدينية، وفي طليعتهم حقوق الفلسطينيين؛ أصحاب الحق الأصيل في التحرير والعودة وإقامة الدولة. وجاءت المبادرة وكأنها مكافأة للمحتل مقابل احتلاله وجرائمه في الاستيطان والتهجير والتطهير العرقي والفصل العنصري.ولا يغيب عن الذهن أن أصل المبادرة المعدلة سعودي؛ حملت صفتها العربية في قمة بيروت عام 2002، وقامت وقتها على مبدأ ‘السلام الشامل مقابل التطبيع الكامل’، وتبدل المبدأ في المبادرة المعدلة إلى ‘العدوان الشامل مقابل التطبيع الكامل’(!!) وهو ما صيغت على أساسه ‘مبادرة الدوحة’، أملا في توفير الاستقرار والأمن للاستيطان والاحتلال، وعملا على دمج الدولة الصهيونية في المنطقة، وإتاحة الفرصة لها للتربع على عرشها؛ بوسائل الحروب والغارات المتواصلة على المنطقة منذ اغتصاب فلسطين 1948. والتنازلات تجعل من الطبيعي أن يكون لجامعة الدول العربية مثل هذا الموقف المشين من سورية؛ الدولة المؤسِّسة للجامعة، ولها أهميتها الكبرى ضمن استراتيجية الأمن القومي العربي، التي غابت وانهارت، وصاحبة وزن فاعل في الصراع العربي الصهيوني، إنها مبادرة لاستمرار الاقتتال واستمرار عسكرة الصراع، وسد الأفق امام حل وطني يحقق للشعب السوري ما يريد ويحقن دمه المراق.ونعود قليلا إلى ‘قمة الدوحة’، وقد عقدت في آذار/مارس الماضي، وسارت على نفس خطى القمم العربية، وحصيلتها لأكثر من ثلاثة عقود مضت تتلخص في استدراج الفلسطينيين والعرب إلى التنازل عن حقوقهم . وقد سبقت رحلة وفد جامعة الدول العربية إلى واشنطن قرارات عن ‘قمة الدوحة’، وهي قمة التأمت وانفضت في يوم واحد؛ وعندما كتبنا عنها في نهاية مارس الماضي اعتبرناها حلقة في سلسلة ‘لعبة الأمم’ على أراضي الشام، وبدلا من أن تستجمع القمة إرادتها الضائعة وتضع ‘مشروعا وطنيا عربيا’ لحل سياسي بعيد عن اللعبة الجارية، فأقرت حق دولها في تسليح المعارضة السورية، ومنحت مقعد سورية في القمة وفي جميع المنظمات التابعة للجامعة لـ’الائتلاف الوطني السوري المعارض’ واعتباره الممثل الشرعي الوحيد للشعب السوري، وهذا القرار واضح في هدفه، وهو إسقاط الدولة السورية وليس الحكم السوري، وخالفت القمة بذلك البند الثامن من ميثاق الجامعة، الذي لا يجيز لدولة عضو التدخل ضد دولة أخرى فيها بشكل صريح. وبينا وقتها تناقض القرارات؛ في تأكيدها على اهمية الجهود الرامية للتوصل الى حل سياسي كأولوية للازمة السورية، وفي نفس الوقت تؤكد على حق كل دولة وفق رغبتها في تقديم كافة وسائل الدفاع عن النفس؛ بما في ذلك العسكرية لدعم ما أسمته صمود الشعب السوري والجيش الحر(!!) وتوقعنا وقتها بصيف ملتهب ‘يلفح المنطقة بنيرانه التي قد تأكل الجميع′.وأي حل عسكري أو تدخل خارجي سيعقد الموقف، وإذا لم يسترد العرب وعيهم وإرادتهم؛ فيتعرفون على خطر العدوان على سورية، وأنه بمثابة اللعب بالنار في محيط فيه من النار ما يحرق الأخضر واليابس، ومن العادة فإن من يلعب بالنار لا يخرج منها سليما، وقد ينجح في إشعالها لكنه لا يستطيع السيطرة عليها في منطقة ملتهبة في داخلها وتحيطها النار من كل جانب.. ويفسر هذا قلق وخوف القيادة الصهيونية وقد تكون غارتها دليل ضعف وارتباك وتخبط، والدليل هو ادعاؤها الحياد في الأزمة السورية، وايصال رسائل مفادها ان الغارة اقتصرت على ضرب صواريخ كانت في طريقها الى حزب الله(!!)وعلى المستوى الرسمي العربي فكل أطرافه خاسرة، فالمناعة الوطنية والسياسية والعسكرية السورية ضعفت، وأفق الحل السياسي ما زال بعيدا، ولبنان قد ينفجر مرة أخرى في وجه المنطقة، وسبق ومر بمأساة الحرب الأهلية ودفع فيها ثمنا باهظا. وتبقى الأطراف الأقوى (من غير العرب طبعا) في انتظار حصتها من الغنيمة.وإذا ما عقد مؤتمر دولي فسيراعي مصالح الأقوياء، والعرب ليسوا منهم، ولن يكون لهم نصيب، فقد اعتادوا على ذلك، ولن يكون لهم نصيب في توزيع أي تركة، وقد سبق وانتظروا نصيبهم من تركة ‘الرجل المريض’ أي الامبراطورية العثمانية، وحصدوا الحصرم، وأخطره قيام كيان استيطاني عنصري يفصل المشرق العربي عن مغربه، ويحول دون لقائه ووحدته، وتطبيق خريطة سايكس بيكو، وتقسيم الوطن العربي إلى كيانات استمرت موزعة بين القوى العظمى بعد الحرب العظمى الأولى.وعلينا في مصر أن ندق نواقيس الخطر ونتهيأ لمواجهة الزحف القادم علينا، ولننظر حولنا إلى ما يحدث للدولة المصرية وإصرار سلطتها الحاكمة على حصار سلطاتها وهدم مؤسساتها، ومنها المؤسسة العسكرية، وفيها آخر جيش موحد وقوي في المنطقة؛ يواجه وحده مخطط التشويه والتفكيك. فهل تنجح وهل نفيق؟

التعليقات