أفضل المقالات في الصحف العربية

01:38 مساءً EET

هل حكم مصر الراهن أشد وطأة من الفلول والثورة المضادة

هل معنى هذا العنوان أن مصر تخضع لنوع غير مألوف من الحكم.. فلا هو بالثوري أو التقليدي، ولا هو حكم ثورة مضادة أو جماعة رجعية؟. وهذا هو ما أعنيه بالفعل . اختصارا للطريق من البداية، وتبقى البراهين والتفاصيل.

وإذا كانت الثورة حركة تغيير شامل، إلا أنها ليست تغييرا عشوائيا بل واعيا ومحسوبا؛ يعرف من أين يبدا وإلى أين ينتهي، والثورة بهذا المعنى تفتح بابا للتطور والتقدم واتساع المصالح والمنافع والشعبية، ودون ذلك فلا وجود لها. والثورة المضادة نقيض هذا تماما؛ تتأسس على الجمود، ويحيط بها الفساد والمفسدون، وتعادي التقدم، وتحصر المصالح والمنافع في دوائر أو فئات محدودة وضيقة، وتركز تداول الثروة بينها، ولا تحمل أي ملمح جماهيري أو شعبي، ومع ذلك فإن كلا من الثورة والثورة المضادة يتغطى برداء الدولة ويعمل تحت سقفها، ودور الدولة معهما يتسع ويضيق وفق اتساع وضيق مصالح ومنافع وشعبية القوى الحاكمة. فحين يتسع دورها تتحول إلى ‘دولة راعية’ ومع الضيق تنكمش في حدود ‘دولة الضبط والربط’، وتختزل بأقبح صورها في الدولة البوليسية.أما وأن تكون الدولة نفسها مستهدفة بالهدم والتصفية فمن يقوم بذلك يدخل تحت تصنيف ما يمكن أن نطلق عليه ‘قوى ما بعد الثورة المضادة’، وهذا ما أتصوره منطبقا على الحكم الطائفي والمذهبي القائم في مصر الآن؛ بقيادة الجناح ‘القطبي’ المتطرف في جماعة الإخوان المسلمين. وأن يكون هذا هو حال مصر بعد ثورة بحجم وعمق ثورة 25 يناير فهذا شيء غير طبيعي ولا مُبَرَّر، وهذا يعيدني مضطرا لتوصيف مبكر للثورة، وهي في ذروة زخمها في ميادين وساحات وشوارع مصر؛ قلنا منذ أكثر من سنتين أنها ثورة من طراز خاص؛ ‘عابر للأيديولوجيات، ومتجاوز للأحزاب، ومتخط للطوائف والمذاهب’، ومعنى هذا أنها ثورة الشعب بكل معنى الكلمة، وكان على الثوار وأنصارهم أن يتعاملوا معها على أساس هذا الفهم، وأن يخرجوا من أسر الفكر التقليدي في النظر إلى ثورة من هذا النوع.من الطبيعي أن تواجه كل ثورة بثورة مضادة. وإذا ما كانت الثورة قد خرجت من رحم حراك شعبي واسع؛ فإن فلول حكم مبارك المخلوع ومن معهم هم سدة الثورة المضادة ولُحْمتها إذا جاز الوصف، وقد كان حكم مبارك مستبدا وفاسدا وتابعا. ومع ذلك حرص على أن تبقى حركته وإجراءاته تحت سقف الدولة وفي نطاق سلطاتها ومؤسساتها، وفي اللحظة التي سعى فيها ابنه إلى العمل خارج مجالها، وبدأ في تحويلها تدريجيا إلى شركة يملكها ويديرها رجال أعمال ومضاربين وسماسرة ووكلاء احتكارات إجنبية ورجال شرطة؛ يحمون مصالحهم ومنافعهم الممتدة، وبدأ ذلك مع حلول الألفية الثالثة وبداية القرن الواحد والعشرين، وأسس جمال مبارك لـ’حكم عرفي’ وعائلي خارج القانون؛ أتاح له بأن يكون ‘الرئيس الموازي’ لتسيير ‘الدولة الشركة’ وتيسير ‘التوريث’، الذي صار طموحا غالبا على تصرفاته بدعم عائلته ومساندة شركائه، ومن وقتها لاحت في الأفق بدايات تكوين ما يمكن تعريفه بـ’قوى ما بعد الثورة المضادة’، وإن كانت على استحياء.ولما أعطت ثورة 52 يناير بطبيعتها التي ذكرناها انطباعا بأنها ‘ثورة بلا صاحب’؛ أسالت لعاب الطامعين والفاشيين ‘والمؤلفة قلوبهم’، وانقضوا عليها وداسوها بأقدامهم، وسحقوها في مهدها. وإذا ما أضيفت إلى ذلك أخطاء التعامل معها، وقد ارتقت إلى مستوى الخطايا، التي يسرت مهمة أعدائها والطامعين فيها، وأمام ذلك اكتفت الثورة بالاعتصام بالشارع فقط، وأهملت تمكين نفسها من الحكم أو المشاركة فيه، وجذبتها لعبة الانتخابات، وهي غير مهيأة ولا مؤهلة، فالأرض ليست ممهدة، والثورة لم تحقق أيا من أهدافها، وبدأ الاختلاف على جلد الدب قبل اصطياده.واستطاعت المرحلة الانتقالية الأولى، التي أدارها المجلس الأعلى للقوات المسلحة تمكين قوى الجماعات الطائفية والمذهبية من رقبة الثورة حتى نجحوا في خنقها، ثم حكموا زيفا باسمها، وحتى هذه اللحظة لم نعلم إن كان ذلك نتاج سوء تقدير أو فقر خبرة أوقع المجلس العسكري وأوقع مصر كلها فريسة لمن لم يرحمه أو يرحمها، وها هي الدولة تدفع الثمن، ويرى البعض أن الهجمة الشرسة ضد سلطات ومؤسسات الدولة؛ بما فيها القضاء والإعلام والأزهر والقوات المسلحة والمخابرات العامة والشرطة، أدت إلى تصدع الدولة وإضعافها فأصبحت آيلة للسقوط وعلى وشك التلاشي.وتصدع الدولة يضعف المناعة فيها، فيسهل تقسيمها، وفي ذلك دليل دامغ على سوء النية والمنقلب من قبل أهل الحكم، وعلى الخطيئة المرتكبة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة السابق؛ سواء كان ذلك بوعي أو بعدمه، وعلينا ألا نجعل منها مشجبا يسيء للقوات المسلحة؛ في ظروف تعمل أطراف عدة داخلية وخارجية على إضعافها والتخلص منها إذا أمكنها ذلك، وفي ذلك مصلحة للقوى الطائفية والمذهبية الحاكمة؛ في تطلعها إلى استبدالها بمليشيات دموية تصوب سلاحها إلى جماجم الثوار وصدور الشباب؛ خاصة بعد أن أعلن مجلسها الأعلى وقوفه مع الشعب في محنته الراهنة.وزيادة في التوضيح، فإن القوى الحاضرة في المشهد السياسي الآن هي:أولا: قوى الثورة.. وكتلتها الرئيسية بين الشباب، وعمقها غاطس في قاع المجتمع وعمقه، وتجد دعمها من مخضرمين؛ يرفضون ما جرى للثورة وما حدث مع الثوار، وبينهم من يقدم أقصى ما يستطيع من دعم وبث لروح الصمود فيهم، والتحلي بالصلابة وطول النفس في المواجهات الجارية، التي من المتوقع لها أن تطول، وهؤلاء يساعدونهم على استعادة زمام المبادرة واستمرار الرهان على الشعب، الذي لم يبق لهم غيره، وترشيد آليات العمل ووسائل الاحتجاج والتظاهر السلمي؛ في الميادين والمدن والطرق الرئيسية، وبالكلمة والصورة وعلى الشاشات وصفحات التواصل الألكتروني، وتوخي الحذر مع استمرار سقوط الشهداء تباعا؛ بالاغتيال المباشر أو الاغتيال المعنوي وتلفيق التهم وتشويه السمعة، وفنون التعذيب المفضي إلى الموت.ثانيا: قوى الثورة المضادة.. وكنت إلى وقت قريب أحسبها تجمع فلول حكم مبارك المخلوع، ومعهم جيوش البلطجة العاملة لحسابهم فقط، وما تحت يديها من إمكانيات منظومة الفساد القائمة على تحريكهم وتمويلهم؛ مضافا إليها خبرة جهاز ‘أمن الدولة’ السابق العامل في صفوفهم. والثورة المضادة تعتمد على المعادين للثورة ومقاوميها. بمعنى آخر يمكن حصرها في حدود الفلول وجماعات المصالح التي ارتبطت بحكم مبارك، وكانت مهمتها إعادة إنتاج الحكم المخلوع، الذي أسقطته الثورة. ومع بدايات الدور الدموي لحكم الإخوان اعتَبَرْته وقتها امتدادا للثورة المضادة، وكان ذلك خطأً مني في التحليل والتقدير علي أن اعترف به، فقد ثبت أن الحكم الطائفي والحزبي أكثر تجاوزا من قوى الثورة المضادة بكثير.ثالثا: ‘قوى مابعد الثورة المضادة’.. ويمكن أن نطلق عليها أيضا قوى ‘ما فوق الثورة المضادة’، وهذا ينطبق على الجناح ‘القطبي’ وحلفه الطائفي المذهبي الحاكم. وقد تمكن من التسلل إلى صفوف الثوار وشاركهم الميدان والتظاهر والاحتجاج، وحمل شعاراتهم ونطق بلسانهم إلى أن انكشف ما لديه من خطط مبيتة بدأت بـ’زواج عرفي’ من طرف المجلس الأعلى للقوات المسلحة السابق، وقدم عربون محبته ‘لجنة البشري’ لتعديلات دستور 1971، وكان الإخوان المسلمون هم الجماعة الوحيدة الممثلة فيها، وزاد عليه إلغاء الدستور المستفتى على تعديل بعض مواده، وأقام لها عرس غير تقليدي في 19 مارس 2011، تحول إلى ما عُرِف بـ’غزوة الصناديق’، واستمتعت بشهر عسل شهد انتخابات تشريعية غير دستورية لمجلسي الشعب والشورى!!.رابعا: قوى المعارضة.. وهي خليط من أحزاب قديمة وجماعات جديدة ومستقلين، وكان هم كثير من المنضوين تحت رايتها هو ما يمكن أن تحصل عليه من مكاسب وغنائم وأنصبة، وهذا من الأسس المتبعة في العمل الحزبي والسياسي التقليدي، وبقيت أسيرة إنشغالها بالديمقراطية السياسية دون أن تشغلها قضايا الثورة واستكمال أهدافها وتمكينها من الحكم أو مشاركتها فيه، فلا هي شاركت ولا ساعدت في تمكين الثورة منه، وسارت المعارضة على ثلاث أرجل؛ واحدة مع الثورة، وأخرى التحقت بركب الفلول والثورة المضادة (وكي لا يحسبني أحد متجنيا فمن بين من اعتلى سنامها أبرز رموز الفلول والثورة المضادة وهو عمرو موسى وغيره)، وهرولت الرجل الثالثة سندا لـ’قوى ما بعد الثورة المضادة’، وتجلت في وقوفها في مشهد غير متوقع تأييدا لمحمد مرسي، وهي تعلن مطالب ستة تعهد مرسي بتنفيذها، ولم ينفذ منها مطلبا واحدا، ثم قلب لها ظهر المِجَن دون حرج.وكثيرا ما كنت أذكر نفسي بأن الانتماء للثورة، مع ثقافة وطنية وسياسية غير مشوهة، ووعي اجتماعي متقدم يعصم من هول ذلك التيه والارتباك الذي تعيشه قوى الثورة وأحزاب وجماعات المعارضة على حد سواء، وإذا كان للمعارضة عذرها بسبب فهمها التقليدي للديمقراطية السياسية بمعزل عن ضمانات اجتماعية واقتصادية وقانونية تعززها وترسخها، وتصحح بها أوضاعا مجتمعية مختلة؛ تدفع بالمهمشين والفقراء والمعدمين إلى مراكز الاهتمام، وتحد من تغول حيتان المال والأعمال ومن تركيز الثروة في يدهم، كما هو حادث قبل وبعد الثورة، وغياب ضمانات من هذا النوع يصب في مجرى أعداء الثورة والمتربصين بها، وهو ما يحدث لثورة وثوار 25 يناير.و’قوى ما بعد الثورة المضادة’ بنزوعها الطائفي والمذهبي الدموي؛ قوى لا تسمح بمشاركة ولو محدودة من أحد، وإذا كانت الثورة تهدف لتغيير منظومة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية القديمة، ونشر فكر وثقافة جديدة تخدم هذا التغيير، فليس في حسبانها القضاء على الدولة أو تصفيتها، وذلك على العكس من ‘قوى ما بعد الثورة المضادة’، فعداؤها للدولة وسلطاتها ومؤسساتها مستحكم، وكان اشتراكها في الثورة بنية وأدها وتفكيكها واضح، ولها في ذلك خبرة طويلة؛ حصلت عليها عندما كانت شريكا في غزو بغداد وسقوط العراق وتقسيمه، ومثلها الحزب الإسلامي؛ واجهتها الحزبية والمذهبية في أرض الرافدين، وكانت محرضا لقوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) للتدخل في ليبيا، وعلى رأس الداعين للتدخل العسكري الأجنبي في سوريا، ولن تتوانى في طلب التدخل العسكري في مصر من أجل التمكين ووأد الدولة وتقسيم الشعب!!

التعليقات