أفضل المقالات في الصحف العربية
حرية لا تحرر!
لعل الشيء اللافت في الحراك الحاصل في العالم العربي بعد ما سمي بالربيع العربي هو «سقف» حرية الرأي المتحرك بشكل مدهش، وذلك عبر قنوات التواصل الاجتماعي على شبكات الإنترنت والفضاء التلفزيوني بشكل أساسي.. هناك إحساس متزايد «بالحرية» بعد عقود من الكبت والحرمان من المشاركة في إدلاء الرأي في أي موضوع. والآن يبدو الوضع أشبه بـ«ماسورة آراء» وانفجرت، وسيكون التحدي المهم والهائل القادم هو تنظيم هذه المسألة بمجموعة قوانين وأنظمة تسمح بشكل واضح وصريح بحرية الرأي، وتدعمه، وتؤيده، وتحمي التعرض «الخاطئ» في سمعة الناس وأعراضهم، ويكون الحل دوما عن طريق القضاء حتى يكون هناك حالة من التنظيم، وذلك للبعد عن الفوضى والعشوائية والاستغلال الطائش لهذه الظاهرة.
هناك خلط كبير، كما يبدو، على الساحة في فهم معنى «الحرية»، ويسيئون تفسير معناها، ويعتقدون أنهم يمارسون «التحرر»، وفرق شاسع وكبير بين الكلمتين والمعنيين تماما، حتى في الثقافة الغربية، فهناك معنى Freedom وLiberty، فالأولى بمعنى حرية هي حق مكفول للإنسان كفلته الأديان والأعراف والمجتمعات؛ أن يمارس عقيدته بحرية، وأن يتزوج من يريد، ويعمل ما يشاء، ويدرس ما يتمنى، ويقول ويطلع على ما رغب دونما التعرض للآخرين بالكذب والإهانة الشخصية، وإصابتهم بمكروه، وهي مدخل خطير لمبدأ التحرر أضاع المجتمعات الغربية في الستينات الميلادية من القرن الماضي بعد أن كان للحرية دوما سقف أخلاقي مهم وثابت مستمد من التعاليم السماوية والقوانين والنظم.
ولكن متى ما أزيلت هذه المسائل تحولت المجتمعات إلى حالة من الفوضى العارمة، وفقدت مؤسسات الأسرة والحكم والدين وقارها وهيبتها واحترامها، ولكن من الضروري ألا تستغل الحكومات هذه المسألة لتكريس فكرة الكبت والمنع، وتزيد في الإمعان بحرمان المواطنين من حقوقهم البسيطة والبديهية وتكريس فكر متطرف على أنه وسطي، ومحاولة إقناع الناس بذلك، بينما يظل الفكر هو مصدر قلاقل ومخاوف وشكوك.
من الضروري أن يكون هناك معايير واضحة تحكم العلاقة في مسألة الحريات والحقوق بين الناس وبين الحكومات؛ لأن المساحة الرمادية غير واضحة الملامح ولا المعروفة الحدود، تفتح المجال لاجتهادات خطيرة، وفي الكثير من الأحيان قد تكون مدمرة. الحريات هي وسائل نمو وإصلاح وتطوير وتكريس لفكر المشاركة في صناعة القرار المشترك، وهي فرصة لو استغلت بالشكل السليم لكانت أشبه بمصدر طاقة نوعية في إطلاق الشعوب لمراحل متطورة من التنمية، بدلا من الإحساس المستمر أن هناك طرفين على نقيض، وتكبر بالتالي الفجوة بينهما بدلا من تكريس فكرة المصلحة المشتركة والمصير المشترك، وبالتالي يتكون هناك مفهوم المصلحة العامة، ولكن من دون التحول الحقيقي لهذه الفكرة إلى كيان في حزمة حقوق وتشريعات وأنظمة وقوانين تسن وتوضح العلاقة بين الاثنين، المواطن والدولة، ستبقى فوضى الحريات قائمة، ويتبعها طبعا فوضى القمع، وهذا سيناريو هائل للمشاكل والاضطرابات والإزعاج والقلق الذي من الممكن أن يتم البعد عنه بقليل من الإبداع القانوني والخيال السياسي وحسن الظن الأخلاقي.
هناك فرق بين الحرية والتحرر آن أوان استيعابه.