مصر الكبرى
أجواء مصرية تسود الحياة في لندن وتجسد روح الوطن
< عايدة > في قلب قاعة ألبرت هول البريطانية
لمس < فيردي > الإيطالي نبض الهوى المصري وترجمه في أوبرا رائعة
كتبت – مروة فهمي :
تحولت قاعة < ألبرت هول > المطلة على حدائق الهايد بارك ، إلى ساحة مصرية فرعونية تحتضن مشاهد التاريخ القديم وتشكل إطلالة رائعة على مصر ومجدها ورايات حياتها . لقد طبع التاريخ المصري العالم كله في ألفية متميزة ، كانت الإضافة الفرعونية هي الملمح الرئيس وتيار العولمة المصري الذي ساد الأحقاب المبكرة في دفتر التاريخ الإنساني .
القاعة البريطانية التي تحمل إسم زوج الملكة فيكتوريا الأمير ألبرت ، هي تاج القاعات الكبرى في بريطانيا ومخصصة للعروض الضخمة والمهرجانات الفنية ولقاءات الفرق الموسيقية خصوصاً الكلاسيكية منها .
تشهد < ألبرت هول > نهاية فصل الصيف من كل عام الاحتفال الصاخب الذي تنظمه محطة الإذاعة البريطانية لاستضافة فرق الموسيقى الكلاسيكية بقيادة أسماء بارزة في عالم النغم والتأليف الموسيقي الإنساني .
في هذه القاعة عزف مصريون يملكون موجات الموهبة في عالم العزف الجميل والمدرب على كلاسيكيات الموسيقى العالمية . وقد حضر مع فرق دولية بارزة العازف المصري حسن معتز المتألق بعزفه على آلة التشيلو ، كذلك عازفة الفلوت ريهام فايد ، بالإضافة إلى عازف آلة الأوبوا محمد صالح وعازف الفيولينة المتألق إسلام نور الدين .
هذا العام خصصت < ألبرت > هول موسمها الطويل لتحفة الموسيقار الإيطالي < فيردي > الذي كلفه الخديوي إسماعيل بتأليف مقطوعة للأوبرا تدشن إحتفالات مصر بإفتتاح قناة السويس . وقد دعا الخديوي ملوك أوروبا لحضور احتفالية على مقربة من قناة السويس لتدشين هذا الممر المائي الحيوي الذي ربط الشرق بالغرب في اتصال لصالح التجارة والحضارة . وأراد حاكم مصر آنذاك صوغ بلاده على المقاس الأوروبي فكلف < فيردي > بتأليف هذه المقطوعة التي أصبحت تحظى بهذا الإقبال الرائع وتشد الجماهير في الشرق والغرب إلى حضارة مصر وطقسها ومناخها ونموذجها المبهر الذي ألهب حتى الآن خيال الفنانين والرسامين والموسيقيين .
مصر ماثلة في الوعي الأوروبي منذ افتتاح قناة السويس واكتشاف مقبرة توت عنخ آمون ، فهناك حالة بريطانية وأوروبية بالولع بمصر وتاريخها . وعندما تزور المكتبات القريبة من المتحف البريطاني ترى عشرات الكتب الجديدة التي تصدر تباعاً تتناول الحياة المصرية وتغوص فيها بالبحث والتحليل والقراءة .
جدد عرض أوبرا < عايدة > في قلب حي كنزنجتون الهوى المصري لدى البريطانيين ، خصوصاً وأن ربيع القاهرة المدهش شد الانتباه إلى ملحمة مصرية جديدة تتغنى بالحرية والانعتاق ورفع راية الديمقراطية في اتجاه السلم والاستقرار والنماء الاجتماعي .
عرضت قاعة < ألبرت هول > أوبرا عايدة في ظل هذا الهوس البريطاني بمصر التاريخ والواقع المعاصر بكل ما فيه من مجد وإحباط وشوق إلى الحرية والحياة الكريمة .
تمثل < عايدة > بؤرة الوهج الموسيقي إذ وضع < فيردي > في قلبها نبض الحياة المصرية من خلال قصة حب جميلة تعزف على أوتار القلوب وتتدفق في شرايين الألحان القوية المعبرة عاطفة متأججة خصوصاً في ختام الفصل الثاني حيث مارش النصر الرائع بهذا التوافق بين الآلات النحاسية والأخرى الوترية .
أعطى < فيردي > روح مصر العفية في أوبرا تتناول قضية الهوى الداخلي لقائد مصري وقع في غرام أسيرة أثيوبية فتعلق قلبه بها . هذه الخطوط تتفجر في داخلها الموسيقى الرائعة المجسدة لرغبات الشخصيات وصراعها بين تأدية الواجب وتلبية مطالب الحب والاستجابة لنبض الفؤاد .
أهمية أوبرا فيردي في تجسيد هذا المناخ المصري كله بالعمارة الجميلة المعروفة والنقوش على جدران المعابد والأزياء الخاصة بالحقبة الفرعونية وطرق التجميل وتصفيف الشعركما نجح الموسيقار في تخيل عدة جُمل موسيقية فرعونية واستخدم آلة < الهارب > للإيحاء بهذا المناخ الموسيقي في عهد دولة الفراعنة .
وقد تألقت المصممة إيزابيلا بيوتر في تجسيد الملامح المصرية عبر ملابس تتزين بالرسوم الفرعونية وتعبر عن عمق الشخصيات التي تتحرك على المسرح وفي قلب قاعة ضخمة تتسع للآلاف .
أما المخرج ستيفن ميدكالف فكان رائعاً في تجسيد الأجواء المصرية والمناخ الخاص به وتحريك المجموعات الكبيرة من الكومبارس والمغنيين في إطار نشط وحيوي يخدم الفكرة الدرامية المحورية عن الصراع بين الحب والواجب .
< عايدة > هي الموسيقى الرائعة لفيردي وحكاية مصرية تستوحي التاريخ . والقصة والموسيقى نبض هذا العمل الذي يتجدد دائماً وبإستمرار . وقد حاول المخرج تجديد العرض واستخدام تقنية حديثة للغاية ، غير أن جوهر الأوبرا يتدفق كما كان في المرة الأولى بهذا الطوفان من موسيقى ناطقة وأصوات أوبرالية لنجوم كبار في عرض باللغة الإيطالية وتجري ترجمته أمام المشاهد على المسرح بالإنجليزية .
عزفت الفرقة الفلهارمونية الملكية موسيقى < فيردي > بآداء متميز لقائد الأوركسترا أندرو جريينوود . وقد تدفقت الموسيقى في عناق مع الأصوات البشرية لتصنع منظومة من التعبير الصوتي في تجسيد متميز لخطوط الحكاية الدرامية .
عمق أوبرا عايدة هو المشهد المصري التاريخي وتجسيد الديكور على المسرح لقاعات المعابد القديمة بالإضافة إلى موسيقى فيردي المتدفقة بالتعبير البليغ .
إن الأوبرا تنطلق بدراما حيوية تجسد الحكاية العاطفية الملتهبة ، غير أن المشاهد خلال ساعات العرض يغرق بالكامل في تاريخ مصري قديم يدفعه إلى التأمل والمتعة ومتابعة الحكاية من خلال الاقتراب أيضاً من مصر المعاصرة .
كان هدف الخديوي إسماعيل جعل مصر قطعة من أوروبا ، لذلك شيد دار الأوبرا القديمة مع منطقة وسط البلد الخديوية التي استلهمت التراث المعماري الفرنسي . وكان لإنشاء حدائق الأزبكية هو الإلهام في استنساخ حدائق باريسية شهدها الحاكم المصري خلال وجوده في عاصمة النور .
وقد كلف الخديوي الفنان فيردي بتأليف أوبرا < عايدة > التي لا تزال تشغل العالم حتى الآن وتجدد عاطفة ملتهبة تعانق التاريخ المصري وتقترب منه بإيقاعات الموسيقى الجميلة والأصوات الأوبرالية الرائعة .
لقد انفعل الجمهور خلال عروض أوبرا عايدة بقاعة < ألبرت هول > وهذا الانفعال يحلق في سماء مصر من قِبل المشاهدين حيث يحركهم العمل الفني للارتباط أيضاً بالتاريخ المعاصر والاقتراب منه والرغبة في زيارة مصر مع رؤية هذه الآثار التي تركها الفراعنة وتدل على حضارة ونهضة عاشت على ضفاف النيل .
جاء عرض < عايدة > ليضع مصر التاريخ والحياة المعاصرة في قلب الوعي البريطاني ، الذي يشهد خلال الآونة الأخيرة الشغف بمصر وتاريخها والتعاطف الشديد مع هبتها الأخيرة لصنع مستقبلها في ضوء ديمقراطية وفتح نوافذ الحياة أمام شعبها .
خلال استماعي لموسيقى < فيردي > تخيلت القاهرة والنيل والأقصر وملايين المصريين وشوقهم البالغ في غد مشرق جميل يعيش فيه الجميع تحت سقف واحد يغنون للحب والحياة والأمل البديع .
سيطرت على قاعة ألبرت هول وبحضور الآلاف روح مصر الجميلة التي تتغنى خلال تاريخها الطويل للزرع الأخضر وماء النيل وهواء يحمل الأمل في حياة جميلة مشرقة .
الموسيقى هنا تحمل إسم مصر  وترسخ في أعماق البريطانيين لوحة رائعة عن نسيم النيل وهواء التاريخ ، الذي هب على قاعة < ألبرت هول > يحمل كل الطموحات والأشواق النبيلة في حالة ترفرف عليها أعلام الفن وإبداع الموسيقى . لقد كانت مصر دائماً مهبط الأفكار المنفتحة على الفن والكلام والموسيقى وستظل كذلك متمردة على قيود وتحلم بالحرية ونسيمها البديع