مصر الكبرى

06:35 مساءً EET

قرأت لك : من بعيد للدكتور طه حسين

فى كتاب يرجع بعض فصوله إلى 90 عاما مرت، يتوقف عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين أمام قضايا يبدو بعضها معبرا عن المشهد المصرى حاليا، وهو يناقش مفهوم الدولة والدستور وثقافة رجال الدين وعلاقة الدين بالفلسفة وطبيعة مجتمع ما بعد الثورات.

ويلاحظ طه حسين فى كتابه انتشار الأغانى الفكاهية والمسرح الهزلى عقب ثورة 1919 وقبل كتابة دستور 1923 وكان المحافظون والحريصون "على الآداب العامة ينكرون هذا الفساد ويشفقون منه وكنا نقول أن هذا الانحلال الخلقى عرض من أعراض الثورة" حيث مرت الثورة الفرنسية 1789 أيضا بمثل هذا اللهو لكى يحتمل المواطنون أعباء الحياة.
كما يلاحظ أيضا أن "حياتنا الدستورية" صرفت الناس عن اللهو "وأزالت عن شفاهنا هذا الابتسام للحياة ذلك لأننا اعتقدنا يوم نفذ الدستور وأشرف البرلمان على الحكم أن الأمر قد رد إلى أهله" مضيفا أن الحياة تكون أكثر ثراء وخصبا وإنتاجا حين تكون فيها مساحة للهو.
وفى الجزء الأول من كتابه (من بعيد) -وهو عمل غير مشهور صدر عام 1935 وأعادت الهيئة العامة لقصور الثقافة التابعة لوزارة الثقافة بمصر نشره فى الآونة الأخيرة- يحتفى بالفنون ويخصص فصلا عن الممثلة الفرنسية سارة برنار (1844-1923) التى رحلت قبل وصوله لباريس بأيام ويعتبرها "أحسن سفير نشر الدعوة الفرنسية فى أقطار الأرض وأحسن تمثيل للعقل الفرنسى والفن الفرنسى والأدب الفرنسى حتى قرنها كثير من الكتاب إلى نابليون… خدمت فرنسا ورفعت ذكرها إلى حد لم يبلغه كثير من قوادها الفاتحين".
وفى فصل عنوانه (بينيلوب) يتناول تحايل تلك الزوجة على من أرادوا أن يحلوا مكان زوجها الغائب عوليس الذى استغرقت رحلة عودته إلى بلاده إيثاكا 20 عاما كما كتب الشاعر الإغريقى هوميروس فى (الأوديسا). ويشدد على أن الفن عجيب فى قدرته على "خلق ما لم يوجد" ومقاومته للفناء بدليل "فناء الأمة اليونانية" فى حين بقيت ملحمة هوميروس خالدة.
والكتاب الذى صدر فى سلسلة (ذاكرة الكتابة) هو فصول كتبها المؤلف خلال رحلاته إلى مدن أوروبية بين عامى 1923 و1930 ويقع فى 222 صفحة كبيرة القطع تشمل مقدمة للكاتب المصرى طلعت رضوان قال فيها أن المؤلف يدافع فى هذا الكتاب عن "المفهوم العلمى لمعنى الدولة فى العصر الحديث" ضمن سعى الليبراليين فى تلك الفترة لترسيخ دعائم الدولة العصرية.
وطه حسين (1889-1973) أول من حصل على درجة دكتوراه تمنحها الجامعة المصرية عام 1914 وفى العام نفسه سافر إلى فرنسا لدراسة العلوم الاجتماعية والفلسفية ونال درجة الدكتوراه من جامعة السوربون عام 1918 فى الفلسفة الاجتماعية لمؤسس علم الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون ثم تولى تدريس التاريخ والأدب بالجامعة المصرية منذ عام 1919 وأصبح عام 1930 عميدا لكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول القاهرة الآن
وفى فصل عنوانه (شك ويقين) يرجع إلى عام 1923 يدعو فيه إلى فضيلة الترجيح وأن ننزه القرآن ونرفع الدين ونصوصه عن اضطراب العلم وتناقضه حيث أن الدين مطلق ثابت والعلم نسبى متغير.
ويتساءل.. "هل كتب على الإنسانية أن تشقى بالعلم والدين.". مطالبا بما يسميه نزع السلاح من يد العلم والدين وهو سلاح تستخدمه السياسة حين تنتصر لطرف وتضطهد الطرف الآخر، حيث يضطهد المجددون من العلماء والفلاسفة والأنبياء ولكن أيا منهم -كما يقول- كان إذا انتصر يقوم باستخدام سلطته الجديدة فى الاعتداء على حقوق الآخر.
ويستشهد على ذلك باضطهاد الفلاسفة فى اليونان ثم اضطهاد العلماء فى العصور الوسطى فى أوروبا فى ظل سلطة الكنيسة التى اختلقت خصومة بين العلم والدين وحين انتصر العقل الأوروبى بعد الثورة الفرنسية قام باضطهاد الدين ولقى رجاله "ضروبا من المحن والفتن". ويرى أن الخروج من هذا المأزق هو وقوف السياسة بحياد بين العلم والدين.
ويقول طه حسين إن دستور 1923 فى مادته رقم 149 قال الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية وأن ذلك كان مصدر فرقة بين المسلمين حيث استغل متشددون تلك المادة استغلالا منكرا فى حوادث مختلفة أهمها حادثة (الإسلام وأصول الحكم) وحادثة كتاب (فى الشعر الجاهلى) حيث حوكم الشيخ على عبد الرازق مؤلف الكتاب الأول عام 1925 لمعارضته فكرة الخلافة الإسلامية وقضت هيئة كبار العلماء بإخراجه من زمرتها.أما طه حسين حين ألف كتاب (فى الشعر الجاهلى) فاتهمه شيخ الأزهر عام 1926 بالإساءة إلى القرآن وأحيل إلى التحقيق أمام رئيس النيابة محمد نور الذى أمر بحفظ القضية ولم يشكك فى نية المؤلف أو دينه وسجل فى تقريره أن "للمؤلف فضلا لا ينكر فى سلوكه طريقا جديدا للبحث حذا فيه حذو العلماء الغربيين ولكنه لشدة تأثير نفسه مما أخذ عنهم قد تورط فى بحثه حتى تخيل إليه حقا مما ليس بحق أو ما لا يزال فى حاجة إلى إثبات أنه حق" ثم صدر الكتاب بعد تعديل بعض نصوصه وتغيير عنوانه فأصبح فى الأدب الجاهلى
ويعلق طه حسين على مادة "الإسلام دين الدولة" فى كتابه (من بعيد) قائلا كانت النتيجة الخطرة لهذا كله أن تكون فى مصر أو أخذ يتكون فيها حزب رجعى يناهض الحرية والرقى ويتخذ الدين ورجال الدين تكئة يعتمد عليها فى الوصول إلى هذه الغاية… فلم يعرف تاريخ مصر الحديث شيئا من اضطهاد حرية الرأى باسم السياسة والدين قبل صدور الدستور.

التعليقات