مصر الكبرى

02:21 مساءً EET

محاولة للتفكير خارج الصندوق بعيدا عن ملوك الطوائف وشيوخ الفتنة

 
من الصعب على المرء العامل في مجالات الكتابة والصحافة أن يخطط لموضوع بعينه يراه ملحا وهو يتابع الأحداث المتسارعة والمتزاحمة، وكنت قد عزمت في رحلتي الحالية إلى بريطانيا بعد طول مقام في مصر؛ على أن أتيح لنفسي فرصة الخروج من ‘الصندوق’ الإخواني. ووجدت الأمر ليس سهلا، فالأحداث متسارعة ومتلاحقة وتزداد تعقيدا، ولا تعطي فرصة لالتقاط الأنفاس.

في الأسبوع الماضي على سبيل المثال حضر وزير الخارجية الأمريكي جون كيري إلى المنطقة لدعم شرعية حكم الإخوان الآيل للسقوط، والضغط على المعارضة لإنجاح استراتيجية أوباما في الاحتواء المزدوج لكل من الحكم والمعارضة، لتوفير أقصى درجات الحماية للمصالح الأمريكية في هذه المرحلة المعقدة والمرتبكة.
وفي نفس الأسبوع تسبب النجل الأصغر للدكتور مرسي في حرج بالغ لنفسه ولأسرته بعدما تعدى على ضابط شرطة بالسب والقذف، وكان قادما بسيارته (بي أم دبليو) برفقة صديقه، وطلب من مجند الأمن المركزي إزاحة الحواجز الحديدية التي تحيط بمنزل والده، والمجند الذي لا يعرفه أجابه بأن الطريق مفتوح، وما كان من النجل إلا أن توعد الضابط المسؤول بقوله: ‘أنت مش عارف أنا مين.. أنا حأقلعك بدلتك الميرى.. وأخليك تقعد جنب أمك’. ورفض ضابط الشرطة التصالح، وقال: ‘أنا عايز حقي، وأنا مستني أما أشوف المديرية حتجيب لي حقي من أبن رئيس الجمهورية أزاي’، ووعده مدير الأمن بأنه سوف يأتي له بحقه لم يكن د. مرسي في حاجة لمزيد المشاكل في ظروف وضعه المعقد، ولم يكن تصرف النجل هو الأول من نوعه، وسبق ووصف منتقدي والده بـ’البغال’ على صفحته بشبكة التواصل الألكتروني (فيسبوك)، وقد اتصل نجل مرسي الأوسط أسامة ويعمل محاميا معتذرا للضابط عما بدر من شقيقه، وقبل الضابط اعتذاره بشكل شخصي، لكنه طالب باعتذار رسمي من عبد الله؛ بشخصه أمام جميع القوات المعينة لتأمين المسكن الرئاسي.
في ذات الوقت حكمت محكمة القضاء الإداري بوقف إجراء الانتخابات، المزمع عقدها في الثاني والعشرين من هذا الشهر، وإحالة قانون مجلس النواب إلى المحكمة الدستورية العليا، في ظل عداء مستحكم ضد القضاء، واستمرار معاقبة مكتب الإرشاد لكل من يتصوره منازعا لسلطاته غير الدستورية، حتى لو كانت سلطات ومؤسسات الدولة كالسلطة القضائية، واستند حكم المحكمة على عدم عرض تعديلات مجلس الشورى لقانون الانتخابات على المحكمة الدستورية العليا؛ لتتبين ما إذا كانت التعديلات مطابقة لنصوص الدستور، وهذا ما لم يتم من مجلس الشورى مع التعديلات التي طلبتها المحكمة؛ إعمالا لقاعدة جديدة نص عليها الدستور الحالي تقول بالرقابة المسبقة على القوانين قبل إصدارها، بجانب مخالفة القرار الرئاسي لنص دستوري لا يسمح بانفراد الرئيس باتخاذ قرار الدعوة للانتخابات.
وردا على الدفع المقدم من هيئة قضايا الدولة؛ بأن الدعوة للانتخابات من ضمن القرارات السيادية التى لا يجوز الطعن عليها، ذكرت المحكمة في حيثياتها أن القرارين يتصلان اتصالا مباشرا بالحقوق السياسية للمواطنين، ويؤثران فى حقهم فى الانتخاب باعتباره المظهر الأهم لمبدأ سيادة الشعب، وصدر القراران فى ظل دستور جديد يختلف عن سابقه، وأصبحت القرارات خاضعة لمرجعية دستورية جديدة تغاير التى كانت فى الدستور السابق، وذلك لاعتناق نظام سياسي جديد هو النظام المختلط ‘البرلماني والرئاسي’ وما يستتبعه من عدم انفراد رئيس الجمهورية باتخاذ تلك القرارات. والثابت أن اختصاص رئيس الجمهورية التى يباشرها منفردا هي استثناء من الأصل، فيختص بالمسائل المتعلقة فقط بالدفاع والأمن القومى والسياسة الخارجية والسلطات المنصوص عليها، أما ما يخالف ذلك فيباشره بواسطة رئيس مجلس الوزراء ونوابه والوزراء.
رغم كل مغريات الكتابة داخل ‘الصندوق’ انتزعت نفسي خارجه في رحلتي الحالية، التي بدأت بصدفة ملفتة، حين وجدت جاري على الطائرة المغادرة من القاهرة إلى لندن يسألني: هل أنت مفكر أو كاتب أو إعلامي، وقال أنه يعتقد أنه يعرفني، وقدم نفسه: عمر الغنوشي، وسألته هل أنت ابن الشيخ راشد الغنوشي فرد بالإيجاب، واستطردت: قد يكون التقينا في معية الوالد في بريطانيا قبل عودته إلى تونس، وواصل مركزا على مصر وأحوالها، وهو الذي يقيم فيها كما فهمت، وأنه ذاهب إلى لندن لأيام قليلة، وتطرق إلى المعارضة المصرية، وكانت وجهة نظره أقرب إلى الرأي السائد في المراجع الرسمية، وذكرت له ما طلبته شخصيا من والده حين قابلته في تونس في يونيو الماضي كي يخفف من غطرسة وخشونة الإخوان المسلمين مع القوى الثورية والوطنية، وقلت له أنني رجوت الوالد زيارة مصر من أجل هذه المهمة المطلوبة بإلحاح، وزدت: أنني علمت أنه جاء إلى القاهرة لساعات ولا أعرف ماذا حدث؟وأضفت أنني انتهزت فرصة زيارة شخصيتين من ‘حماس’ للقاهرة وحين زرتهما طلبت منهما التدخل لوقف الصدام بين الإخوان من جهة والثوار من جهة أخرى، ووعدا خيرا وسافرا، وتوالى الصدام إلى أن تلطخت يد مرسي بدماء شهداء سقطوا على أبواب وفي محيط قصره! وكانت تلك لحظة اللاعودة مع الشعب، ومع الاسترسال أشرت لفروق تصورتها بين إخوان تونس وإخوان مصر؛ من حيث أن قادة الإخوان في تونس من راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو وغيرهما بدوا مجتهدين وليسوا من نساخ المتون أو حفاظ النصوص؛ ولا متعسفين مع النص الديني، ولا يعطون لمنطوقه الغلبة على روحه، ويبدو أن تصوري لم يكن دقيقا وأنا أرى حزب ‘النهضة’ يحاكي مكتب الإرشاد في الحكم ‘بالعافية’، وبتقسيم الوطن إلى طوائف وشيع ومذاهب، وبإشاعة الاقتتال الأهلي بين مكوناته.
كل ذلك يحدث دون بادرة واحدة للمصالحة وحقن الدماء، اللهم إلا بادرة حزب النور السلفي، التي قبلتها المعارضة المدنية ورفضتها أغلب أحزاب وجماعات الإسلام السياسي، لأنها قد تقطع عليهم طريق العنف والانتقام وتصفية الحسابات.
وبعد مراجعة الأطباء تلقيت دعوة كريمة من الصديقين العزيزين الكاتب الكبير عبد الباري عطوان رئيس تحرير ‘القدس العربي’، والصحافي الكبير واللامع بكر عويضة نصف المتقاعد حاليا، وتبادلنا الرأي حول ما يثار عن مرجعية مكتب الإرشاد لحكم مصر، وقيل هل هناك ضير وأحزاب الغرب لها مرجعياتها، وغالبا من خارج الهياكل الحزبية التقليدية؟، وكان مثل ‘لجنة 1922’ في حزب المحافظين البريطاني حاضرا، وهي منذ أن تأسست لأكثر من تسعين عاما تتشكل من أعضاء مجلس العموم ‘المحافظين’، وتملك الكلمة الأولى في تقرير سياسة الحزب وتوجيهه، وتجتمع اسبوعيا، وهي على عكس مكتب الإرشاد تُختار من بين منتخبين، ولا تأتي من خارج الحزب أو البرلمان، وللتذكرة فإن رغبة مكتب الإرشاد تحت رئاسة حسن الهضيبي مطلع خمسينات القرن الماضي في الاستحواذ على الثورة هو الذي فجر الصراع بين ثورة يوليو 1952 والإخوان.
واستحوذت قضية الحملة التي بدت غير مبررة ضد فلسطينيي غزة وحركة ‘حماس’، واسترجَْعت تأثير الثقافة الانعزالية التي سادت منذ حكم السادات، واستمرت مع مبارك، واستفحلت في حقبة ‘الحكم الموازي’ لجمال مبارك، وكانت سحبا من رصيد فلسطين وتخريبا لدور مصر العربي، وأضيف ذلك لرصيد الغرب وأمريكا والصهيونية، وتحكمت تلك الثقافة في توجهات الحكم وقرارات ما بعد حرب 1973، وعلينا أن نرى الرصيد العربي والفلسطيني وهو يسترد عافيته في مصر بعد ثورة يناير، وأن تستعاد الذاكرة الوطنية لحقبة الستينات والحنين إلى رمزها ورفع صوره في ميادين وشوارع مصر الثائرة؛ في هذا رد اعتبار للعروبة، وأنا على يقين بأن لا توجد عروبة في غيبة فلسطين، ومن يريد أن يتأكد عليه مراجعة كتل التصويت في الجولة الأولى لانتخابات الرئاسة المصرية؛ يكتشف أن الكتلة المنحازة لفلسطين كانت دون دعاية أو رشاوى أو أموال أو ضغوط ملوك الطوائف وتحريض شيوخ الفتنة لسوف يجد أن فلسطين كانت المنتصر الحقيقي في تلك المعركة.والمصريون يقفون مع فلسطين حين يرفضون التطبيع ومعاهدات ‘كامب ديفيد’ و’السلام’ و’الكويز’، ومصدر قلق المصريين من ‘حماس’ إنما يعكس خبرتهم الأليمة مع حكم مكتب الإرشاد، وهي خبرة مخيبة للآمال؛ احتفظ فيها حكم الإخوان بعلاقة استراتيجية مع واشنطن وتل أبيب، وحافظ على مصر الرسمية ‘كنزا استراتيجيا’ للحركة الصهيونية!.
والذي يخفف من وطأة هذا القلق المشروع هو قيام تعاون فلسطيني مصري؛ شعبي وأهلي يتولى كشف ما خفي من تفاهمات؛ ليس آخرها ‘هدنة’ حماس وتل أبيب بوساطة مصرية، بجانب ما يتم من ترويض إخواني مصري لـ’حماس’ كي تقبل بشروط ‘الرباعية الدولية’، فتعترف باغتصاب فلسطين، وتنبذ العنف؛ بمعنى التخلي عن هدف التحرير، ‘فما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة’، وتسلم بالمعاهدات الموقعة من السلطة الفلسطينية مع الدولة الصهيونية، وأشار موقع صحيفة ‘يديعوت أحرونوت’ الألكتروني في السابع من هذا الشهر إلى طلب مرسي من ‘حماس’ بالتخلي عن الكفاح المسلح والعودة للعمل السياسي إرضاء لما أسماه ‘المجتمع الدولي’، وضرب محرر التقرير مثلا بتصريحات عصام الحداد، مساعد مرسي للشؤون الخارجية، وقوله: أن القاهرة لن تتسامح مع تدفق الأسلحة المهربة من قطاع غزة وإليه، لأن في ذلك زعزعة للاستقرار في سيناء حسب قوله. وأول من يركز على خطر غزة ويداهن تل أبيب هم مسؤولون رسميون وأمنيون، وعليّ أن اصدق تصريحات ‘حماس’ النافية، فما زلت أحمل تقديرا لأي جماعة أو منظمة تتمسك بسلاح المقاومة في مواجهة الاستيطان والاحتلال، لكن المشكلة في صمت ‘حماس’. وعلى المقاومة أن تصمد حتى تعتدل الموازين وتعود الأمة العربية عمقا حقيقيا لمعركة التحرير القادمة.
سوف أستمر خارج الصندوق لفترة؛ أعرض فيها ما يثار حول حال ‘جبهة الانقاذ’، أو جبهة الخراب بلغة ملوك الطوائف وشيوخ الفتنة، وحول خريطة الثورة والحكم والمعارضة في الوقت الراهن، وكذلك ما يثار حول بيع قناة السويس.
 

التعليقات