مصر الكبرى

11:54 صباحًا EET

القاهرة… وزيارة كيري

كان أول درس نتعلمه بخصوص السياسة الأميركية الخارجية ونحن ما زلنا طلاباً في سنواتنا الجامعية الأولى أن هذه السياسة تقوم على مبدأ "البراجماتية"، وأسهل طريقة لتوضيح هذا المبدأ ومعناه هي أن "البراجماتية" تعني التعامل مع الواقع وليس السعي إلى خلق واقع جديد، فالسياسة الخارجية لأية دولة تسعى بداهة إلى تحقيق مصالحها، وفي هذا السياق تعني "البراجماتية" أنك تستفيد من المعطيات الواقعية في الساحة الدولية لكي تحقق تلك المصالح، ولهذا مثلاً قيل الكثير عن النهج الأميركي في تسوية الصراعات، فالسياسة الأميركية هنا لا تُعنى "بنصرة المظلوم"، وإنما تهتم به وبحقوقه في الساحة الدولية عندما يثبت أنه صار معطى من معطيات تلك الساحة، بمعنى أن إهمال حقوقه سوف يمثل تهديداً للاستقرار الإقليمي أو العالمي، ولهذا كانت السياسة الأميركية تصم آذانها عن المطلب المصري الخاص بضرورة التوصل العاجل إلى تسوية سلمية للوضع في سيناء (بعد عدوان إسرائيل عام 1967 واحتلالها لشبه الجزيرة المصرية) إلى أن وصلت حرب الاستنزاف إلى الذروة في منتصف عام 1970، وساعتها تقدم ويليام روجرز وزير الخارجية الأميركي آنذاك بمبادرة لوقف إطلاق النار والدخول فوراً في مفاوضات لتحديد معالم التسوية التي سيتفق عليها، وإن كانت هذه المبادرة قد أخفقت لأسباب لا علاقة له بها بسبب احتجاج إسرائيل على التحركات العسكرية المصرية التي تمت ليلة وقف إطلاق النار، وأيضاً بسبب وفاة عبدالناصر ودخول المنطقة في مرحلة جديدة. وبعد أن نشبت حرب أكتوبر عام 1973 التي أثبت العرب فيها مجدداً أنهم ليسوا جثة هامدة، وإنما هم على أقل تقدير قادرون على الفعل لم تعترض الولايات المتحدة على قرار مجلس الأمن الذي قضى بوقف إطلاق النار، والدخول فوراً في مفاوضات بين الطرفين، للتوصل إلى تسوية تحت إشراف دولي مناسب.

لم تقتصر هذه السياسة الأميركية على حالات الصراع في الساحة الدولية فحسب، وإنما امتدت إلى كافة جوانب السياسة الخارجية الأميركية، وعلى سبيل المثال فقد أقامت الولايات المتحدة الأميركية علاقاتها ببلدان العالم على ذلك الأساس، فالنظم الصديقة لها بمعنى أنها تحقق لها مصالحها لا مشكلة في استمرار العلاقة معها بل ودعمها، حتى ولو كانت تلك النظم غارقة في مستنقع تجاهل حقوق الإنسان الأساسية أو لم تعرف بعد ألف باء الممارسة الديمقراطية، وربما كان الاستثناء الوحيد في هذا الصدد في السياسة الخارجية الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية، هو سنوات حكم جون كيندي المحدودة (من يناير عام 1961 إلى نوفمبر عام 1963) التي حاول فيها أن يهدم الصورة السلبية عن السياسة الأميركية التي تتحالف مع نظم صديقة بغض النظر عن موقعها على مقياس حقوق الإنسان والديمقراطية، وكان سؤاله الشهير: لماذا يتعين على الولايات المتحدة الأميركية أن تحمل هموم تلك النظم، بينما يتباهى خصوم الولايات المتحدة بعلاقاتهم بأكثر الدول ديمقراطية أو اتباعهم على الأقل سياسات تقدمية؟ وكانت الثورة اليمنية التي نشبت في أواخر سبتمبر عام 1962 هي أول من استفاد من تلك السياسة، حيث اعترفت الإدارة الأميركية في ديسمبر عام 1962 بحكومة الثورة، ولم تعترض على اعتمادها ممثلاً للدولة اليمنية في الأمم المتحدة، وأعلنت في الوقت نفسه عن نيتها حماية أصدقائها في المنطقة من أي تهديدات. ولكن هذه السياسة انتهت باغتيال كيندي في نوفمبر عام 1963، ولا يعرف أحد على سبيل التأكيد هل كان من شأنها أن تنجح أم أن مصالح الولايات المتحدة وتعقيداتها في المنطقة كانت كفيلة بإفشال تلك السياسة حتى ولو لم يُغتَل كيندي.
ثم دشن الرئيس الأميركي بوش الابن رؤية جديدة للمرة الثانية في السياسة الخارجية الأميركية، ولاشك أن ذلك كان يرتبط بالانفراد الأميركي بالدور القيادي في الساحة الدولية بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، وقد اعترفت وزيرة خارجيته كوندوليزا رايس بخطأ السياسة الخارجية الأميركية "البراجماتية" في الماضي على أساس أنها ركزت على العلاقات مع الدول التي توجد فيها مصالح حيوية أميركية، بغض النظر عن البعد المتعلق بحقوق الإنسان والديمقراطية في تلك الدول. وقد جاءت هذه التصريحات المشجعة كما نذكر على خلفية "مشروع الشرق الأوسط الجديد"، الذي كانت التصريحات تظهر أن بعداً أساسياً من أبعاده هو التطور الديمقراطي في المنطقة، ولكن شيئاً من هذا لم يحدث، واتضح مع مرور الأحداث أن "مشروع الشرق الأوسط الجديد" كان الهدف الحقيقي من ورائه هو القضاء على بؤر الممانعة والمقاومة للسياسة الأميركية في المنطقة في طورها الجديد. واندثر "مشروع الشرق الأوسط الجديد" وبعده ظهر ما عرف باسم "الربيع العربي"، وكان واضحاً أن القوى التي ورثت بعض النظم القديمة هي بالتحديد قوى "الإسلام السياسي"، وكانت "البراجماتية" تقضي بضرورة التعامل مع هذه القوى إن أرادت الولايات المتحدة الحفاظ على مصالحها في دول "الربيع العربي"، وإن كان البعض قد اندهش من سياسة كهذه على أساس أنه يتصور أن السياسة الأميركية والقوى الدينية الإسلامية على طرفي نقيض.
ولا يعرف هذا البعض أن جذور هذه السياسة تمتد إلى عقود خلت منذ تمكنت "المؤسسة الدينية" في طهران من الإطاحة بحكم الشاه -أحد الأعمدة الرئيسية للسياسة الأميركية في المنطقة- وأذكر أنني تلقيت في عام 1994 دعوة من مجلس الشؤون الخارجية الأميركي لحضور حلقة بحثية ليوم واحد كان دوري فيها هو التعقيب على كتاب صغير وضعه أحد رجالات الخارجية الأميركية عن دور مصر الإقليمي، وكان الحضور (حوالي عشرين فرداً) يمثلون تمثيلاً أميناً نخبة صنع القرار في الولايات المتحدة: دبلوماسيون -عسكريون -أعضاء في الكونجرس الأميركي -إعلاميون -مثقفون… إلخ. ووصل النقاش في أحد مراحله إلى الحديث عن السياسة الأميركية المثلى تجاه نظام الحكم السابق في مصر الذي كانت علامات معارضته قد بدأت تتضح، وانقسم الموجودون إلى فريقين: فريق يقول: كفانا ما أصابنا من جراء السياسة الإيرانية بعد الثورة، ووصل من هذه المقدمة إلى أن البناء على ما هو قائم هو أفضل الخيارات مع محاولة إصلاح ما استطعنا. أما الفريق الثاني فقد تساءل: لماذا يتعين علينا أن نتعامل مع قوى لا نعرف عنها شيئاً كما حدث في إيران؟ وكان الخيار الأفضل بالنسبة لهذا الفريق هو إقامة "جسور استكشافية" مع هذه القوى حتى نستطيع التعامل معها إذا حان الوقت لذلك، وسيغضب أصدقاؤنا وحلفاؤنا بكل تأكيد، ولكن ليذهبوا إلى الجحيم إن فعلوا، فهم يحتاجون إلينا أكثر بكثير مما نحتاج إليهم. لم يتفق الحاضرون على رأي -وهذا من طبائع الأمور- ولكن من الواضح أن بديل "الجسور الاستكشافية" قد طُبق في المنطقة على نطاق واسع، وكانت الوفود الأميركية ذات الصفة الرسمية على سبيل المثال تلتقي مع عناصر "الإخوان المسلمين" في مصر على مرأى ومسمع من النظام القديم الذي لم يملك -كنوع من الإعراب عن الغضب- أن يعادي حليفه أو صديقه الأساس.
ثم جاء "الربيع العربي"، وجربت السياسة الأميركية البديلين معاً وأولهما محاولة إقناع الزعماء في النظم التي سقطت بضرورة إجراء إصلاحات سياسية حقيقية، غير أنها لم تجد صعوبة بعد سقوط هذه النظم في أن تتبع ما يعتبر نتيجة واضحة للبديل الثاني، وما أحسب زيارة كيري إلى القاهرة إلا مرتبطة بهذا كله.

التعليقات