مصر الكبرى

08:23 صباحًا EET

الفرص الضائعة من الحكم الاخواني لمصر!

من لا يلتفت لحجم السخط والغضب والعنف الذي يجتاح مصر؛ فإنه بكل المعايير مكابر وخارج نطاق الخدمة؛ فالشخص الطبيعي والمؤهل يعي وظيفته في الحياة، ويتعامل معها كحزمة كاملة بحلوها ومرها، وبما يحيط بها من ضيق واتساع، والطراز الغالب على حكم مصر فاقد للحس والشعور بالخطر على الوطن والمواطن، ولا أمل فيه ولا رجاء منه، وقد حبس نفسه في سجن الطائفة وكبلها بالانتماء إلى غيتو المذهب، بكل ما فيهما من حض على الكراهية وتحريض على العنف، وهم لا يشعرون أن الحياة أكثر رحابة مما هم فيه من ضيق، وأن العنف يُقابل بعنف مضاد، والعقائد يحميها سموها وسماحتها ومنفعتها للناس، وليس التعذيب أو إزهاق الأرواح والقتل.

من هنا فعلى الثوار ألا يراهنوا على الكراهية، وألا يتخذوا من العنف حلا، فالأوطان يبنيها العمل والجهد والعرق والدم، وعليهم الاعتماد على الحركات الفاعلة والمؤسسات المستقلة؛ وهذا طريقهم لاسترداد الثورة وانتزاعها من أيدي مختطفيها، ونحن نعلم أن الثورة مختطفة من أجل ‘تمكين’ الإخوان وليس لتمكين الشعب من السلطة والثروة والبناء والاستقرار، وحادوا بذلك عن أهدافها لحسابهم الخاص. إلى أن ارتفعت أصوات تنادي بمنح د. مرسي فرصة ثم محاسبته، ونسي من ينادي بذلك أن يسأل هل رافض النصيحة، وغير القادر على تحمل رأي مخالف يستطيع الاستفادة من أي فرصة تتاح له؟ أم أنها دعوة لكسب الوقت لصالح ‘التمكين’ والاستحواذ؟، وتجميد الثورة لأربع سنوات، وهي فترة لازمة للإجهاز على ما تبقى منها. وكان الأولى بهم الاقتداء بقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: ‘رحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي’.
علينا أن نتذكر أن انتخاب د. مرسي كان لأربع سنوات وليس أقل. فما الذي تغير ليجعل مصر في حالة تمرد غير مسبوقة وتنتابها رغبة ملحة في إزاحة د. مرسي. ألا يستحق هذا التوقف عنده ولو لحظة للتعرف على الأسباب بعيدا عن المكابرة والاستعلاء والتدليس؟
لقد طلب د. مرسي مهلة المئة يوم الأولى وأعطيت له، لكنه فشل وحين قيل له ذلك انطبقت السماء على الأرض. في نفس الوقت لم يعهد المرء عنه إلتزام بعهد أو وفاء بوعد قطعه على نفسه؛ خاصة أمام مؤيديه عشية إعلان النتيجة النهائية لانتخابات الرئاسة؛ وهؤلاء هم معارضوه الآن، وكانت وعوده وتعهداته معهم ممهورة بتوقيعه، ألم يسأل لماذا هذا التحول من التأييد إلى الرفض، وما هي أسبابه؟. بدلا من كيل الاتهامات بضعف المعارضة وانعدام قيمتها؛ وإذا كانت كذلك، فلماذا يهتم بها أصلا ما دامت على ذاك الحال؟، ومن المسؤول عن مواجهة التحديات وعلاج المشاكل.. هل هو الحاكم أم المعارض؟، ومن مفارقات الخطاب الرسمي الادعاء بأنه يسعى لإيجاد معارضة قوية!، وإذا كانت المعارضة بالضعف الذي يدعيه فلماذا لا يتحمل منها رأيا أو نقدا أو نصيحة؟ وهل إذا قويت سيتحمل مطالبها واقتراحاتها ويلبيها؟، ومنذ متى تقوم الحكومات بتقوية المعارضة وتشد من أزرها؟
ويبدو أن أصحاب القرار في القاهرة أناس لا يفقهون ألف باء العمل السياسي، ولا يعرفون معادلات الحكم الذي قبل به الناس، وتقوم على أنه قسمة بين طرفين أحدهما يحتل مقاعد الحكم ويجلس الثاني على مقاعد المعارضة. ومنذ متى يطلب من في الحكم من معارضة؛ لها توجه مختلف ورؤية مغايرة؛ يطلب منها مشروعا لحكمه؟. والمفترض فيمن يحكم أن لديه مشروعه ورؤيته الخاصة للحكم وإدارة الدولة، وإذا ما طلب أي طرف حاكم مشاركة المعارضة فلذلك شروط؛ منها قيام جبهة وطنية تضم تيارات وقوى وأحزاب سياسية التقت على برنامج مشترك، وفي حالة الثورة فإن القول الفصل في بناء الجبهة هو للثوار، وإن لم تكن الجبهة لنصرة الثورة فلا قيمة لها ولا خير فيها.
ونعيد التأكيد على معنى حصول د. مرسي على أعلى الأصوات؛ كان معناه قبولا بالمشروع ‘الإخواني’، لكن مشكلة ذلك المشروع أنه بقي سرا لا يعرفه أحد من خارج الجماعة حتى اللحظة، وما يتردد عن ذلك المشروع السري مصدره دولة قطر، حتى قوي الانطباع بأنه مشروع قطري مئة في المئة؛ وعينه على أصول الدولة وممتلكات الشعب، أي أنه مشروع يأخذ ولا يعطي ويسحب ولا يضيف، وأيا كان الأب الأصلي لذلك المشروع؛ من القاهرة أو الدوحة أو تل أبيب فهو مشروع كارثي، فقوامه ذبح الدجاجة التي تبيض لمصر ذهبا، وأكثر من هذا فإن قناة السويس هي أغلى ما ملكت مصر، ليس من ناحية القيمة السوقية ولكن بقيمتها وما دفع فيها من تضحيات ودماء وشهداء؛ فقد قُدّر من سقط أثناء التنفيذ بمئة وعشرين ألف شهيد، غير آلاف أخرى من المصابين والشهداء في العدوان الثلاثي الذي استهدف إجهاض عودتها بقرار التأميم التاريخي والجريء لجمال عبد الناصر.
وعبد الناصر حين استرد القناة استرد معها الكرامة المصرية والعربية، والمشروع الإخواني أو القطري أو الصهيوني من المتوقع أن يكون مشروعا معاكسا؛ يعيد الامتيازات الأجنبية وقد يتسبب في حرق الأصابع التي تمتد لذلك المرفق الحيوي، الذي لا يقدر بثمن، وهذه من أعاجيب دورات الأزمنة.
والدولة المأمولة لم يبنها الإخوان بعد، فليست هذه مهمتهم، لقد عرفت مهمتهم بأنها إعادة إنتاج الدولة البوليسية، ومع فرض الحلول الأمنية تفاقمت الأزمة الاقتصادية، وعندما تم استدعاء الدولة جاءت ومعها عصا الشرطة الغليظة ورصاص المليشيات القاتل، مدعوما بتواطؤ السلطات على اغتيال الثوار تحت سمع وبصر حكومة تتعامل مع الدم المراق بطريقة ‘شاهد ما شافش حاجة’ في المسرحية الشهيرة والتي تحمل هذا الاسم، وكان شكل الدولة تحت حكم عائلة مبارك في سنواتها العشر الأخيرة أنها دولة ‘رجال أعمال’، وليس لها من هذا الاسم نصيب، فلم تر مصر رجالا يعتمد عليهم، ولا أعمالا تحسب لهم، وتحولت الدولة إلى شركة استثمارية كبرى؛ مملوكة للأقارب والمحاسيب، والدولة ‘الشركة’ وضعت كل أصول مصر برسم البيع؛ بداية من شركات القطاع العام وأصول الدولة وأملاك الشعب حتى ذمم الحكام والمسؤولين، مع تحولهم إلى سماسرة ومضاربين ولصوص أراض، والآن لا يختلف الأمر كثيرا فالوضع الحالي أحل التاجر الجشع والمرابي القاتل محل رجل الأعمال الذي كان، وهذا أعاد المياه إلى مجاريها بين حزب الحرية والعدالة الإخواني وفلول الحزب الوطني المنحل، وما كان محرما بالأمس أصبح حلالا اليوم.
ومن تابع ما جرى مع قرض صندوق النقد الدولي يجد أن الموقف من فوائده انتقل من الحرام إلى الحلال، فحين كان خلاف الإخوان مع الجنزوري قائما أفتوا بحرمة فوائد القرض، ولما أزيح الجنزوري وجاء مرسي صارت الفوائد حلالا لا حرمة فيها، وهكذا تتغير القناعات والمبادئ حسب الهوى، وعلى بوصلة مصالح تجار ومضاربي ووكلاء الاحتكارات الأجنبية، الذين يتربعون على قمة القرار الإخواني على جبل المقطم، وعادت الدولة شركة تجارية لا تشغلها التنمية ولا التصنيع أو الاستزراع أو الخدمات الحقيقية التي يحتاجها الشعب، وعادت قواعدها السابقة في تمييز ‘المستثمرين’، الذين يحصلون على أكثر من حقهم، ثم يستديرون على حقوق الفقراء والمعدمين، وكما كان كل الدعم يوجه لهم، فإنهم يحبذون أن يكونوا واجهات ووكلاء لشركات ومنتجات أمريكية وأوربية وصهيونية!.
و’مستثمر’ بذلك المعنى ينظر إلى نفسه على أنه الدولة، ويضع نفسه فوقها حتى يمنعها من التدخل؛ ففي ‘فقه’ الاستثمار أن الدولة شر مطلق، إذا ما تدخلت لصالح المواطن البسيط ومتوسط الحال. وهي ليست كذلك في الغرب الذي تنقل عنه حكومتنا ويقدسه رجال أعمالها، والدولة هناك تتدخل لضبط ‘الاقتصاد الحر’، وهو في حقيقته ليس حرا، فهو اقتصاد احتكاري يقوم على ‘تقنين الاستغلال والفساد والنهب’، وتدخلها لوضع حدود بين تلك الركائز الثلاث للاقتصاد الرأسمالي، ودولة الإخوان ‘الرأسمالية’ لا تملك القدرة على ذلك النوع من التقنين، وتترك المواطن فريسة لتوحش المال، والسقوط تحت عجلات قطار الخصخصة وضربات المؤسسات المالية الغربية والدولية؛ كصندوق النقد الدولي والمصرف الدولي للإنشاء والتعمير.
وفي بلد كمصر فإن تدخل الدولة حيوي وضروري لمواجهة إختلال الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ووقف استنزاف الموارد ونهبها وتهريبها إلى الخارج لحساب المستثمرين والأثرياء وجماعات الجريمة المنظمة والمافيا الدولية، ودولة لها مثل هذا الانحياز تهون على سكانها ومواطنيها، وقد يكون هذا هو سر الرفض العام الذي يعم البلاد ضد مؤسساتها وهيئاتها؛ وضاع الأمل في أن تعود الدولة مُعينة ومُعيلة وحاضنة لمواطنيها؛ وقد يكون في هذا بعض تفسير لظاهرة العنف الرسمي وما يصحبها من بلطجة وفوضى وانفلات على كل المستويات غير الرسمية.
كانت صدمة المواطن كبيرة في حكم الإخوان، وقد كان تصوره أنهم سيعدّلون ويبدّلون حياته إلى الأفضل، ولما لم يتمكنوا من تحقيق ذلك لم يجدوا سوى الهروب إلى الأمام بافتعال معارك مزيفة بلا أساس، وأتت مصحوبة بدعوات لحوار ‘طق حنك’؛ أضحى مطلوبا لذاته، كسبا للوقت الذي يحتاجه التمكين والأخونة، ومن يريد الرد ومناقشة هذه القضايا من طرف الإخوان فعليه أن ينحي المليشيات الألكترونية أولا، وأن يُعالج من مرض السباب والقذف، ومن وباء الشتم والكذب، ويكشف عن ‘المشروع الإخواني’ السري وتفاصيله، ويتوقف عن الحديث عن الفرصة المطلوبة لمرسي، لأن مسؤوليته هو أن يتيحها لنفسه وبنفسه، وكان على طالب الفرصة أن يتيحها بأولويات صحيحة؛ تركز على هموم المواطن وقضاياه، وليس أطماع وطموحات جماعة الإخوان، ولا في إضاعة الوقت في التسول والاستجداء لرهن مصر أرضا وبحرا وجوا لعبث ‘المستثمرين’ الإخوان، الذين يملكون أموالا طائلة يقدرها الخبراء بأربعمئة مليار جنيه مصري قادرة على تحريك عجلة الاقتصاد المشلولة، الذي ما زال مسؤولوه أعجز عن تنفيذ حكم قضائي خاص بتحديد الحد الأدنى للأجور، وما زالت حكومة مرسي تتجاهله حرصا على مصالح مسؤوليها المستفيدين بمئات الآلاف من الجنيهات في مناصبهم الجديدة. بجانب احتفاظها بـ 93 ألف مستشار في إدارات الحكومة المختلفة، يبددون الـمليارات على بدلاتهم وامتيازاتهم بلا عائد حقيقي، وأبقى عليهم كميراث من حكم حسني مبارك لشراء الولاء والتأييد.
إنها نفس العقلية ونفس المدرسة ونفس النهج؛ فالراعي والموجه واحد وإن اختلفت لغته وتوجهاته.

التعليقات