مصر الكبرى
بين انقلابي مرسي والجبالي (وثالثهما المالكي)
(1) يروى أن أحد الولاة خطب في الرعية يوماً وهو يروج لقراراته السياسية وختم خطبته قائلاً: ‘وأقول لكم كما قال الرجل الصالح: وما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد’. فقال له قائل: إن هذه المقولة منسوبة في القرآن الكريم لفرعون. فما كان من الوالي إلا أن رد قائلاً: والله إن رجلاً قال هذا لصالح! .
(2)
آفة الانفراد بالرأي عند أهل السلطة تتمثل في هذا العمى عند فرعون ومقلديه الكثر، وعدم القدرة على رؤية إمكانية وجود سبيل رشاد بخلاف ذلك الذي يعهدون. فللسلطة فعل يشبه السحر في نفوس من يتولاها، تجعله يرى أنه مطلع على ما خفي عن غيره، وقادر على اجتراح المعجزات. وصاحب السلطة يريد دائماً المزيد منها، وينشد ‘الحرية’ والتحرر من كل ضغوط ويرى في التنازل والتوافق مع الآخرين عبئاً ثقيلاً يحد من حركته.
(3)
في ظاهر الأمر، هناك فرق كبير بين حال وتصرفات كل من رئيس جمهورية مصر المنتخب، الدكتور محمد مرسي، ورئيس وزراء الجمهورية التونسية الاستاذ حمادي الجبالي. فالأول رئيس ينفرد بسلطات واسعة، لا يكدر صفوها برلمان، ولا تحدها حدود، بينما الثاني مفروض عليه التعامل مع رئيس للجمهورية وائتلاف ثلاثي وبرلمان نشط وإعلام صاخب. الاول اتخذ قرارات لتكريس مزيد من السلطات في يده بتقييد سلطان القضاء ومحاولة تكميم الإعلام، ورفض التوافق مع المعارضة، أما الثاني فاختار بالعكس، أن يضحي بمصلحة حزبه وأن يقترب من المعارضة، ويقترح قيادة حكومة محايدة تمهد لانتخابات قريبة.(4) ولكن مزيداً من التأمل يكشف أن التوجه عند الرجلين واحد، والتحرك هو في نفس الاتجاه. فكلاهما يرى أنه أمام مهام تاريخية وضعها القدر على عاتقه، ويعتقد أنه يملك ‘معلومات’ لا تتوفر لغيره عن المؤامرات والمتربصين. كلاهما يريد التخلص من ‘القيود’ والضغوط المفروضة عليه (القضاء والإعلام والمعارضة في حق مرسي، والبرلمان والحزب في حالة الجبالي) حتى يتفرغ لأداء المهام القدرية، و’إنقاذ’ البلاد.(5) كلا الرجلين لا يفهم، على ما يبدو، مقتضى العملية الديمقراطية ومطالبها، خاصة فيما يتعلق بالشفافية والتوافق وتحمل المسؤولية. في الأنظمة الديمقراطية، ينتخب المسؤول على أساس انتمائه الحزبي والبرنامج الذي يطرحه ذلك الحزب، ويفترض فيه أن يعمل في إطار الدستور والقانون، ويحترم دور بقية مؤسسات الدولة، وأن يتعامل بشفافية فيرجع دائماً إلى الشعب في قراراته. فإذا شعر بأنه غير قادر على أداء مهامه، لأي سبب كان، وجب عليه أن يصارح الشعب ويعلن استعداده للتنحي.
(6)
من هذا المنطلق، كان من واجب الرئيس مرسي حين شعر بأن القضاء وجهات أخرى تعرقل برنامجه أن يطرح الأمر على الشعب، فيطرح السؤال كما فعل رئيس الوزراء البريطاني الأسبق إدوارد هيث حين دعا إلى انتخابات في مطلع السبعينات تحت شعار: من يحكم، البرلمان أم النقابات؟ رغم أن مرسي لم يكن يحتاج إلى مثل هذه الخطوة، لأنه حتى لو قام القضاء بحل مجلس الشوري ولجنة الدستور فإن لديه من السلطات ما يسمح له بإعادة تشكيل المؤسسات كما يشاء. وقد كان خطأ مرسي أنه تصرف استباقياً وعلى أساس سيناريوهات قوامها الأوهام، واختار سيف السلطة بدل التعامل مع الشعب.
(7)
بنفس الدرجة فإن الجبالي كان بالخيار بأن يصارح الشعب، ويعترف بفشل حكومته، فيقدم استقالته لرئيس الجمهورية أو لحزبه، متحملاً المسؤولية عن ذلك الفشل، ثم يترك للحزب والبرلمان تكليف من يشاء. ولكنه اختار البقاء في السلطة، ولكن في ‘تحرر’ من الأحزاب المتشاكسة التي وضعته في السلطة، وعلى رأس وزراء ‘تكنوقراط’، أي موظفين يفعلون ما يؤمرون، وليس لهم رأي سوى في كيفية تنفيذ الأوامر وتنفيذ المهام الموكلة بكفاءة ودقة.
(8)
كثير من الأحزاب، بما فيها بعض أحزاب الحكم، هللت لهذا الطرح باعتباره يحرر الحكم من التجاذبات الحزبية! وهذا لعمري عجب عجاب، لأن ‘التجاذبات الحزبية’ هي أساس العملية الديمقراطية التي تقوم على مسؤولية الحزب أو الائتلاف الحاكم عن أداء السلطة. فعلى أساس أدائها يعاد انتخاب الأحزاب أو تبديلها. ومن واجب الأحزاب أن تضع ‘الكفاءت الوطنية’ في موقع المسؤولية، وأن تستعين بمن شاءت، ولكنها تبقى في نهاية الأمر مسؤولية سياسياً، ولا يمكن لها أن تتخفى وراء تكنوقراط أو غيرهم للتهرب من هذه المسؤوليات.(9)
مشكلة الأحزاب التي هرولت لتولي السلطة في بلدان الربيع العربي أنها اختارت تولي العبء الأكبر في الفترة الانتقالية في وقت كان من الواضح فيه أن بلدانها تعاني من مشاكل تنوء بحملها الجبال، وأن الفترة الانتقالية قصيرة ومضطربة مما يجعل الحكم على أدائها على أساسها مجحفاً. وكانت الحكمة تستدعي اعتماد أوسع ائتلاف ممكن وإشراك الجميع من أجل توفير الطاقات التي تضيع في تجاذب الحكم المعارضة، وحشد كل الجهود والكفاءات لحسم القضايا الوطنية.(10)
يمكن ضم رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي لأصحاب هذه المتلازمة، سوى أنه زاد فسعى إلى احتكار السلطة على أساس طائفي، واتبع وسائل إجرامية لتثبيت حكمه، وهي أمور بريء منها صاحباه. ولكن ما يجمع بين هؤلاء هو كونهم ‘إسلاميين’. فهل للإسلام علاقة بهذا ‘الرشاد’ الذي لا يرى البعض غيره؟ وهل يعقل أن يكون هناك مثل هذا القدر من سوء الفهم المشترك للإسلام وتعاليمه؟