مصر الكبرى

02:40 مساءً EET

متى تجف بحور الدم وينتهي الاغتيال الممنهج في مصر؟!

مصر تعيش عصر الدم والشهادة، ودخلت الثورة طورا جديدا، أعقب الإعجاز الذي شهدته الفترة من 25 يناير إلى 11 شباط/فبراير 2011، وما تلاها من ‘شيطنة’ وجدت رعايتها في فترة شهر العسل الذي ربط جماعة الإخوان المسلمين بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة، وبدت ‘الشيطنة’ غير كافية لقتل الثورة والإجهاز على روحها التي لم تخب بعد، والسبب أن في مصر شعبا شابا؛ النسبة الأكبر فيه من الفئة العمرية ما بين 15 إلى 35 عاما، وهي الأنقى والأقدر ارتباطا بالمثل العليا، ولا تتوانى عن الاستشهاد في سبيلها، و’شيطنة’ الثورة حولها لمرادف للإجرام واالفوضى، لذا وصفها خطاب تلك المرحلة بالبطلجة ليتوافق مع التوجه العام وقتها.

لكن الثورة بعمقها الشعبي وروحها الوثابة، كان من الطبيعي فيها أن تفتح الأبواب أمام مثل هذا المجتمع الشاب فتجد تربته خصبة، ونبعه صاف يمدها بالحياة والعافية، وهذا هو ما يفسر بُعد الإعجاز فيها، ويفسر الإقبال الكبير على التضحية والاستشهاد، بشكل ترك أثره على أجيال الأباء والأجداد، الذين كلما فقدوا عزيزا زادوا إصرارا، ومنح أهالي المصابين وضحايا الثورة العزم والاستعداد لتحمل مزيد من التضحيات والآلام، وحين طالبت كل هذه الملايين التي تخرج وتملأ الميادين والشوارع؛ حين طالبت أولا باستكمال الثورة وجدت تجاهلا ورفضا وإقصاء، وكان خروجها في البداية للتنبيه والتحذير والاحتجاج ولم يجدوا من يهتم بغضبهم أو يكترث بسخطهم المنتشر على امتداد مصر طولا وعرضا.
أغلب قوى ‘الإسلام السياسي’ وبالأخص جماعة الإخوان المسلمين قطعوا علاقتهم بالثورة مبكرا؛ وذلك فور أن حصلوا على غايتهم وعلى ما ابتغوا، وهو التمكين من الحكم، وولد التمكين للأسف حكما طائفيا ومذهبيا؛ يقوم على التمييز والإقصاء والإكراه، وأنا أقصد ما أقول لأكثر من سبب:
السبب الأول.. هو عدم الالتزام بأهداف الثورة في ‘الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية’ واخْتُزلت كل الأهداف في ‘تطبيق الشريعة’ بالمعنى الوهابي المتشدد، وضربت بأهداف الثورة عرض الحائط؛ على الرغم مما استقر في الوجدان العام والخاص عن دور الدين والرسالات السماوية في هداية البشر وربطهم بالمثل العليا، وباستقامة الحياة وتماسك الشعوب، وانتهى ذلك الفهم باعتبار ‘الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع’، وحين شُغِل المواطن بـ’غزوات الصناديق’ كان من الممكن أن يكون إنشغالا إيجابيا إذا لم يتحول إلى هدف في ذاته لإنتاج حكم مبارك بوجه طائفي ومذهبي. وهذا ما يمكن تسميته الإكراه بالتجاهل، واعتبار الثورة وأهدافها كأن لم يكن.
السبب الثاني.. وجود من يمارس العنف الممنهج بأشكاله المختلفة، فحين كان العنف البدني مهمة الشرطة المدنية مع الشرطة العسكرية، صب كل هذا في قناة التشدد الطائفي والمذهبي، فقام بمهمته في تعبئة المجتمع نحو العنف اللفظي والسباب المقذع والأذى البدني وانتهاك الأعراض وإهدار الدماء. وإصدار الفتاوى الرافدة لكل ذلك والعاملة على تقسيم مصر وشقها؛ بطريقة لم تعشها من قبل. وهذا إكراه بالتحريض والتعبئة ظنا بأن ذلك يعيد الخوف إلى النفوس التي تحررت منه، وهو ما لم يحدث على الأقل حتى الآن.
السبب الثالث.. ظهور جماعات أخذت أمر تطبيق الشريعة بيدها، ونقلت تجارب تنتسب للإسلام زورا، ويعمل أصحابها على تجاوزها، منها جماعات تُطبق ‘الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر’ وأصبح لها ضحاياها في أكثر من مدينة وقرية، أقاموا ‘حد الحرابة’ على بلطجية محافظة الشرقية مسقط رأس د. مرسي، وقتلوا طالب الهندسة لمجرد أنه كان بصحبة خطيبته في السويس، وانتقل العنف من الإكراه بالتجاهل والإكراه بالتحريض إلى الإكراه بالقتل وإزهاق الأرواح باسم ‘شرع الله’، ولهذا عمدوا إلى تغييب الدولة، وحولوا المجتمع إلى غابة كاسرة تأكل بعضها بعضا.
السبب الرابع.. الشك في وجود ‘طرف ثالث’ وتحميله مسؤولية الدم والعنف، وكانت أحداث العنف قبل عصر د. مرسي إلى مقعد الرئاسة تُسند إلى ذلك المجهول، الذي يُحملونه المسؤولية السياسية والقانونية والأخلاقية عن الجرائم المُقْتَرَفة، وصار لغزا فُكت طلاسمه بعد انتخابات الرئاسة، التي أدخلت مصر عالم الإكراه الرسمي والرئاسي. ومن لا يعي ذلك عليه أن ‘يخبط راسه في الحيط’، وتحول الطرف الثالث إلى ‘طرف أول’ معلوم ومعروف يديره مكتب الإرشاد ومؤسسة الرئاسة ووزارة الداخلية وتحركه المليشيات في الاتجاه الذي تريد.
وأخطر أنواع الإكراه هو الإكراه الرسمي، وأشد أنواع العنف وطأة هو العنف الحكومي، الذي يهرس المواطن هرسا، ويكسر أنفه ويحط من كرامته.
حين يناقش كاتب أو صاحب رأي ظاهرة الإكراه والعنف، لا تجد من يهتم بها من أهل الحكم، وهذا يلاحظ في طرق ردهم وتعليقاتهم، وأقول ذلك بمناسبة ما نقرأه ونراه ونتابعه بين الفرقاء، وغلبة الحدة والتطاول ولغة التكفير وإهدار الدم، وإشهار كل الأسلحة في وجه الثوار والمعارضة؛ بغض النظر إن كانت مشروعة أو غير مشروعة، ويتحمل أهل الحكم المسؤولية الكبرى في هذا، فهم يملكون ناصية الحكم والقرار، وتحت أيديهم كل ما يمكنهم من ضبط الأوضاع، أما الثائر أو المعارض فلا يملك من ذلك شروى نقير؛ يملك الرأي والنصيحة والشكوى والصراخ، ومهما يكن ما ينسب إليه من تجاوز فهو رد فعل ضد الجرائم الرسمية.
ولنضرب الأمثلة لشهداء يتساقطون تحت التعذيب، ومواطنين يسحلون جهارا نهارا. فحين يلقى القبض على ناشط عليه ألا يمتعض أو يعترض على سلوك شرطي أو أحد من مليشيات الإخوان تجاهه، بحصانتهم الأمنية والطائفية وإمكانياتهم التسليحية وكفاءتهم العنفية، التي توجب الطاعة والتسبيح بالحمد بالقوة.
ومن يقضون تحت التعذيب أو بالاغتيال المباشر هم ثوار؛ تصفهم أدبيات وفتاوى الطوائف والمذاهب بالخارجين على القانون والمخربين، وكل من اغتيلوا جمعتهم صفة مشتركة هي أنهم عارضوا جماعة الإخوان المسلمين، واعترضوا على حكم مرسي، وعليهم أن يسلموا بنتائج صندوق الانتخاب كرخصة للقتل، وليس كطريقة للحكم الرشيد، وهذه ذروة المأساة التي تواجهها مصر رضوخا لـ’الصندوق’.
ويرد المنتمون إلى الحكم لماذا لا يتم الحديث عن إلقاء ‘المولوتوف’ على القصر الرئاسي، وكأن من ينتقدهم يوافق على العنف أصلا؛ سواء ضد القصر الرئاسي أو ضد مقرات الجماعة أو حزب الحرية والعدالة، وهذا تهويش في محاولة للتملص من مسؤوليتهم عن تطبيق القانون، فهي مسؤولية الفصيل الحاكم. الذي يتراخى في القبض على الجناة الحقيقيين؟ ولا يسمح بالاقتراب منهم؟ و’الطرف الأول’ هو الجاني لكنه يتجاهل، وألف باء علم الإجرام هو البحث عن صاحب المصلحة في وقوع الجريمة والاغتيال العَمْد، وحتى كتابة هذه السطور لم يتم التحقيق في عمليات التعذيب والقتل داخل أسوار القصر الرئاسي وحوله في نوفمبر الماضي.
والشهيد محمد إبراهيم قرني؛ المعروف بمحمد كريستي، كان من مؤيدي مرسي، وأدلى بصوته له، وفرح بفوزه، وهنأه على صفحته على شبكة التواصل الاجتماعي ‘فيسبوك’، وهذا ما نشرته صحيفة ‘المصري اليوم’ الأحد الماضي، وأوردت ما كتبه بعد الفوز: ‘إلى الجحيم أيها الشفيق، وألف مبروك يا مرسي يارب تنجح وتبقى أد (على قدر) المسؤولية، ولتعلم أن لك معارضة شرسة، لن تسكت على أي خطأ، وستعارضك بكل شراسة لكن في الحق’، ولما وجد الشهيد أن مرسي لم يف بأي وعد قطعه على نفسه صمم صفحة على موقعه باسم ‘إخوان كاذبون’، ودفع حياته ثمنا لهذه الصفحة؛ بطلق ناري في الرقبة والصدر أمام القصر الرئاسي، ويطفو السؤال على السطح مجددا عن صاحب المصلحة؟ وقد يُضاف ملفه إلى ملفات مغلقة محسوبة على ‘الطرف الثالث’ على مدى العامين المااضيين.
والشهيد الآخر هو محمد عبد العزيز الجندي من ‘التيار الشعبي’، وهو التيار الذي يعتبره الإخوان وحلفاؤهم عدوهم اللدود، تعرض لحفل تعذيب في معسكر ‘الأمن المركزي’ بالجبل الأحمر المتاخم للعاصمة، وهل من الممكن في هذه الظروف أن يكون ذلك بغير علم وزير الداخلية الإخواني الهوى أو بدون معرفة رئيسه؟، وكشف التقرير الطبي وجود علامات شنق ظاهرة في عنقه، وأثار صعق بالكهرباء واضح على لسانه، وكسور في ضلوع الصدر والظهر، ورشح ونزيف بالمخ، وتهشم في الجمجمة، وجرح غائر بآلة حادة في الرأس، والكي بمكواة على الظهر، والقائمة تطول والتفاصيل مرعبة.
وهذا بجانب ما شاهده العالم أجمع من سحل لحمادة صابر بالصوت والصورة؛ قام به عناصر ترتدي زي الأمن، ولولا التصوير للقي عامل البناء البسيط مصرعه، وإذا كان هؤلاء وغيرهم ماتوا وسحلوا تحت التعذيب فإن لشهداء بورسعيد قصة أخرى، وهم الذين وصل عددهم إلى أربعين شهيدا، قتل عددا منهم ضابط شرطة معروف لمواطني المدينة بأكملها، وكان قد اقترف مثل هذه الجريمة أيام الثورة 2011، وعوقب بالنقل إلى بورسعيد للانتقام الدموي مع أهلها؛ فجمع عدد من أهل المدينة على أحد المقاهي وأعمل فيهم القتل، وأفرغ رصاصاته على ظهورهم وفي صدورهم، وذلك عقابا لمدينة كل ذنبها أنها احتجت على حكم محكمة خاص بمجزرة بورسعيد العام الماضي، وفرض مرسي عليها مع السويس والاسماعيلية حظر تجول؛ لم يستجب له أحد في مدن القناة الثلاثة. ورغم وجود القرائن وتقارير لجان تقصي الحقائق، فإن التحقيقات والمحاكمات تنتهي ببراءة القتلة المحصنين بقوة السلطة وعنفها وجرائمها.
والحجة التي مل منها الناس أن مرسي جاء من خلال ‘الصندوق’ الانتخابي، وكأنه الصندوق يمنحه تفويضا بتصفية معارضيه وناقدي ومهاجمي حكمه، ويقول دعاياته أن مخالفيه خائفون من ‘الصندوق’، فلا بأس، وسوف أفترض صحة ذلك القول، وأسلم به وأن ‘الصندوق هو الحل’ بدلا من الشعار السابق؛ ‘الإسلام هو الحل’، وليكن ‘الصندوق’ حلا لحقن الدماء ووقف القتل الممنهج، وتعالوا إلى ذلك ‘الصندوق المقدس’ من أجل هذا الهدف.. لكن كيف؟ هذا هو ما سأحاول شرحه السبت القادم إن شاء الله.

التعليقات