مصر الكبرى

10:37 مساءً EET

هل صوت المسيحيون حقاً لشفيق؟

أشرف راضي
ما إن بدأت المؤشرات الأولية لنتيجة الجولة الأولى لإنتخابات الرئاسة تتواتر حتى سارع رموز من تيار الإسلام السياسي في مصر، لإلقاء اللوم على المسيحيين في النتيجة التي حصل عليها المرشح الرئاسي أحمد شفيق، قائد القوات الجوية الأسبق وآخر رئيس وزراء قي عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك.

وخرج طارق الزمر، أحد أبرز قيادات الجماعة الإسلامية، ليطالب من خلال صحيفة "المصري اليوم"، المسيحيين بالاعتذار، إذا ثبت أنهم صوتوا لصالح شفيق. بالطبع لم يطالب الأخ طارق المسلمين الذين صوتوا لشفيق باعتذار مماثل. وفي الحقيقة، إنني لا أفهم سبباً لهذا التمييز بين مسلم ومسيحي صوتَّا لشفيق، سوى رؤية قاصرة للإسلام جمدت عند مراحل في التاريخ تجاوزها تطور المجتمعات والشعوب.  
ولا يكفي سيل الردود الذي انهال على الزمر يطالبه هو وجماعته بالاعتذار عن دماء المصريين التي سالت على أياديهم. وإذا كان هناك من يرى ضرورة للعزل السياسي في بلادنا، فمن باب أولى أن يفرض هذا العزل على الذين أفتوا بجاهلية المجتمع وبتكفيره وبوجوب الخروج المسلح على المجتمع وعلى الحاكم لفرض الحكم الإسلامي الذي يعني عندهم تطبيق الحدود، ويحصرون الإسلام في عدد من الآراء الفقهية المتشددة التي جاءت في ظروف استثنائية في تاريخ الدعوة والدول، دون غيرها.
بالطبع، أسس الشيخ حكمه على أنباء لم يكلف خاطره بالتحقق من صحتها وتبين حقيقتها قبل أن يرددها، واختار أن يقيم مطلبه على الظن، رغم علمه بأن بعض الظن إثم – وأي إثم في أمر كهذا. ولو عاد الشيخ أو عاد مساعدوه في حزبه إلى نتائج الفرز الأولية وتأمل وتأملوا معا أرقام التصويت وتوزيعها لأعاد وأعادوا النظر في هذا القول المغرض الذي يردده أناس لا معنى عندهم للوطن ولا المواطنين ولا حقوقهم، أناس يميزون بين البشر على أسس أخرى غير أسس الرابطة الإنسانية والرابطة الوطنية، أو حتى رابطة الدين، إذا ما تبنوا رؤية تتسق مع الجوهر الخالص للدين والحكمة منه.
النتائج الأولية للتصويت كما جاءت من المحافظات والمناطق قد تكون صادمة للشيخ طارق وللمنتمين لتيارات الإسلام السياسي، وقد تكون صادمة أيضا لقواعد جماعة الإخوان المسلمين وتقوض حجتهم في توزيع التصويت على أساس ديني، والافتراض بأن جميع أصوات المسلمين مضمونة لهم، وكأن التصويت لهذا المرشح أو ذاك قائم على رابطة الدين، وكأن هناك مرشح أو اثنين فقط هم المسلمين وغيرهم غير ذلك، رغم أنه لا يوجد من بين 13 مرشحاً خاضوا الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة، مرشح قبطي واحد.
وبنظرة سريعة على النتائج الأولية غير الرسمية والتي استندت إلى عمليات تجميع أولية من غرف عمليات المرشحين والأحزاب ومن المراقبين من وسائل الإعلان والهيئات والمنظمات التي راقبت الانتخابات وعمليات الفرز في اللجان الفرعية يتبين حصول أحمد شفيق وحمدين صباحي وعمرو موسى على أعلى الأصوات في المحافظات والمناطق التي لا يعرف أن فيها تركز كبير للأقباط، في حين أن مرشح الإخوان المسلمين محمد مرسي والمرشح الإسلامي "المعتدل" عبد المنعم أبو الفتوح، حصلا على أعلى أصوات في محافظات فيها تركز كبير لإخواننا المسيحيين شركاؤنا في الوطن.
وبالتحليل الاجتماعي لاتجاهات التصويت، تزداد الصورة وضوحاً، ويتضح لكل من يريد أن يرى ويعي أن التصويت في مصر التي تطور مجتمعها تطوراً كبيراً عن مجتمعات العصور الوسطى التي تقوم على رابطة العصب والقبلية، بأكثر مما تقوم على أي شيء آخر، والأكثر تطوراً بالتأكيد من المجتمعات التي تحكم حكماً وراثياً يمنح كل المناصب، أو المناصب الحساسة على الأقل، لأبناء الأسرة الحاكمة. ولكن ليست الأبصار التي تعمى وإنما البصيرة والقلوب التي ختم عليها بغشاوة التطرف والتعصب.
ويشير التحليل الاجتماعي لنتائج التصويت إلى وقوف غالبية الشباب وراء صباحي، ووراء أبو الفتوح بدرجة أقل نسبياً. في البداية، انضم شباب كثيرون من شباب الإخوان وشباب الثورة من مختلف التيارات السياسية لحملة أبو الفتوح منذ أن أعلن نيته للترشح للرئاسة في منتصف العام الماضي، لأنهم يتطلعون إلى وجوه جديدة تكون أكثر تعبيراً عن طموحاتهم وعن أفكارهم وأكثر تجاوباً مع ثورتهم. ومن بين الشباب الذين انضموا لحملة أبو الفتوح مسيحيون كما أيدته وجوه مسيحية بارزة. وأتاح ترشيح صباحي لأعداد أكبر من الشباب المسيحي الالتفاف حوله. وأدى التقارب بين أبو الفتوح والسلفيين والجماعة الإسلامية إلى نفور عدد كبير من الشباب في حملته، خصوصاً بعد تصريحاته عن تطبيق الشريعة وإقامة الخلافة نتيجة لهذا التقارب مع الإسلاميين. وازدادت شعبية صباحي بعد المناظرة بين موسى وأبو الفتوح، التي أجمع المراقبون على أن كان لها تأثير سلبي على كليهما.
وكان معظم المنسحبين من حملة أبو الفتوح من الشباب المسلم. وحول كثير من شباب التيارات السياسية غير الإسلامية أصواتهم إلى حمدين صباحي إذ وجدوا أنه يحقق أملهم في أن تسفر انتخابات الرئاسة على مرشح ينتمي إلى الثورة، وكتصويت عقابي لجماعة الإخوان المسلمين على كل ما اقترفته في حق الثورة وشباب الثورة في سياق صفقاتها مع المجلس العسكري وتواطؤهم المفضوح في معركة الاستفتاء على التعديلات الدستورية وممارساتهم في مجلس الشعب. ورأت الناس فيهم، قبل أن يرى شباب الثورة فيه صورة أخرى للحزب الوطني الديمقراطي الذي ثاروا ضده.
ولم يقتصر تأييد الشباب لصباحي على الشباب المسلم فقط بل كان هناك قطاع كبير من شباب المسيحيين في حملته وصوتوا لصالحه في الانتخابات. وكانت مفاجأة لي عندما ذهبت للحديث عن الانتخابات الرئاسية في عدد من الجمعيات والمنظمات الحقوقية المسيحية التي أنشئت بعد الثورة في تطور إيجابي يعيد إخواننا المسيحيين إلى المجال العام والحياة العامة في مصر، أنني اكتشفت أن غالبية الشباب المسيحي مؤيدون لصباحي ومعادون بشدة لشفيق ولأي من رموز نظام مبارك الذي يحملونه المسؤولية الأولى والمباشرة عما عانوه من اضطهاد عن الهجمات التي تعرضت له كنائسهم وممتلكاتهم في الحوادث الطائفية.
وإذا جمعنا نسبة الأصوات التي حصل عليها صباحي وأبو الفتوح فإنها تشير إلى كتلة جديدة في الناخبين تبحث عن أرض وسط بين ثنائية الإخوان والعسكر التي قام عليها النظام السياسي المصري منذ 1952، ونتيجة لمصادرة الحياة السياسية وتأميمها، فقامت المعارضة على أساس ديني. وهذه الكتلة تعطي بارقة أمل في إمكانية إصلاح النظام السياسي المصري وتطويره، خصوصاً إذا ركزنا على الأبعاد المدنية في هذه الكتلة الجديدة الحرجة.
نقطة أخرى تتعلق بالتحليل الاجتماعي للانتخابات تتمثل في الهياكل الاجتماعية التي ارتكزت عليها التنظيمات السياسية للدولة منذ انقلاب يوليو 1952، بدءاً من تنظيم الاتحاد القومي ومرورا بالاتحاد الاشتراكي ومنبر الوسط وحزب مصر العربي الاشتراكي ثم الحزب الوطني الديمقراطي. وبعض هذه الهياكل لها جذور في الأحزاب السياسية الرئيسية في مصر قبل الانقلاب في عام 1952، وخصوصا الحزب الوطني القديم. ووجدت هذه الهياكل الاجتماعية أن جماعة الإخوان المسلمين وحزبها السياسي – حزب الحرية والعدالة – كيانات مغلقة على أعضاء التنظيم، والأنصار والمتعاطفين معهم، ومن ثم وجدوا صعوبة في أن يكون لهم وجود في ظل نظام سياسي يهيمن عليه الإخوان. وكان من الطبيعي أن تلتف هذه القوى حول مرشح قوي منافس للإخوان مثل أحمد شفيق. هذه الجماعات هي من يطلق عليهم تعبير الفلول في إطار الدعاية السياسية المضادة للجماعات المنافسة، والتي تريد تقليص دائرة المنافسين على السلطة، وفي مقدمتهم الإخوان المسلمون.
لم تكن هناك مفاجأة في حصول شفيق على أعلى الأصوات في محافظات القليوبية والشرقية والدقهلية والمنوفية، وهي محافظات لا يعرف أنها محافظات فيها وجود قوي ومؤثر للأقباط، ولا مفاجأة أيضاً في حصول موسى على أعلى الأصوات في محافظة سيناء. وربما كانت نتيجة الانتخابات في محافظة البحر الأحمر، دليل واضح على أن المصالح والانحياز الاجتماعي، لا العواطف ولا الأيديولوجيات هي الحاسمة في الانتخابات وفي قرار التصويت لهذا المرشح أو ذاك. وتشير نتائج غير رسمية للفرز وجمع الأصوات في المحافظة إلى حصول صباحي على أعلى الأصوات (22384 صوتا) يليه موسى (18648 صوتاً) ثم شفيق (17928 صوتا) وأبو الفتوح (16519 صوتاً) وجاء مرسي في الترتيب الأخير للمرشحين الخمسة الأبرز وفق جميع التوقعات، وحصل على 15560 صوتاً. وهذه منطقية للغاية في محافظة يعتمد الرئيسي على قطاع السياحة، وتخشى من تأثير وصول الإسلاميين للحكم على هذا القطاع.
المفاجأة حقاً كانت في حصول مرسي وأبو الفتوح على أعلى الأصوات في محافظات فيها تركز لكتل التصويت المسيحية مثل المنيا وبني سويف وأسيوط وقنا إلى حد ما. كذلك لا توجد مفاجأة في التفوق الساحق لصالح مرسي في محافظة مرسى مطروح إذ تقدم بفارق كبير جدا على المرشح التالي له. وتشير النتائج إلى حصول مرسي على 13050 صوتاً بينما حصل موسى التالي له مباشرة على 6849 صوتاً، ولا تفوقه في شمال سيناء  حيث حصل على 32695 صوتا وتلاه موسى (20968 صوتاً).
إن الإسلاميين والإخوان بإعادة تصوير التصويت على أساس ديني، إنما يكررون تكتيك انتخابي مجرب وكان له تأثير في الاستفتاء على التعديلات الدستورية، عندما أقاموا إستراتيجياتهم الدعائية على استنفار الإحساس بالخطر بين المسلمين وركزوا على أن رفض التعديلات (التصويت بلا) إنما يعني إصدار دستور جديد تلغى فيه المادة الثانية التي تقر بأن "الإسلام دين الدولة وبأن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع" في حين أن هذه المادة لم تكن ضمن المواد المطروحة للاستفتاء ولا المادة الأولى التي تؤكد مبدأ المواطنة والتي قد تكون مهددة بالفعل في أي صياغة للدستور في ظل هيمنة ثنائية الإخوان والعسكر، وبغض النظر عن طبيعة العلاقة بينهما.
السؤال الآن، هل ستجدي هذه الإستراتيجية في التأثير على الجولة الثانية من الانتخابات وفي ترويع الأقباط عن المشاركة والتصويت لصالح شفيق؟ أم أنها تهدف إلى دفعهم إلى حالة من الاستنفار يمكن توظيفها فيما بعد كأساس لموجة جديدة من المواجهات الطائفية، على غرار ما حدث في أعقاب التعديلات الدستورية وقبل انتخابات مجلس الشعب؟ في كل الأحول من الأولى بالأخ طارق الزمر أن يراجع أبو الفتوح ومرسي شركاءه في تيار الإسلام السياسي في تعهد الأول وتلميح الثاني بإمكانية تعيين نائب مسيحي لرئيس الجمهورية وهو وعد لم يتعهد به شفيق في حملته الانتخابية، لعله يعرف أن اختيار المسيحيين الانتخابي، وهو حق أصيل لهم كمواطنين وشركاء في الوطن، وكذلك القوى المدنية والليبراليين والعلمانيين، لا يقوم على المفاضلة بين هذا المرشح أو ذاك وإنما يقوم على نضال من أجل تحقيق الدولة المدنية الديمقراطية. 

التعليقات