مصر الكبرى
ثائرة خلف النقاب
لأعداد تتزايد فى طريقها إلى نقطة التجمع على سلالم نقابة الصحفيين فى تمام الساعة الرابعة عصرا. العديد من الوجوه النسائية المعروفة حاضرة وكذلك رموز بارزة فى حركات وأحزاب سياسية مختلفة. غابة من الكاميرات تحيط بالمكان ولا تترك مساحة حرة لأى تصرف تلقائى. على مقربة منى رجل لا أعرفه يمازح شابة عفية تتأهب للهتاف قائلا «لا داعى لهتافات ضد الرجال فقد جربتن العام الماضى النزول من دوننا ورأيتن ما حدث».
انخلع قلبى، يشير صاحبنا إلى مسيرة النساء التى اتجهت لميدان التحرير فى مثل هذا اليوم من العام الماضى ونال المشاركات فيها من بذاءات المتطرفين وتعدياتهم ما نالهن. عن نفسى لم أشارك فى مسيرة العام الماضى، كنت لا زلت مفعمة بنقاء ثورى صَور لى حينها أن حقوق الوطن أولى من حقوق المرأة. اليوم اختلف الوضع، هناك هجمة شرسة من التيارات الدينية على حقوق النساء وتجاهل لها من المجلس العسكرى، فالمرأة التى شاركت فى الثورة من ألفها إلى يائها خرجت صفر اليدين. لم يكن لها وجود فى لجنة التعديلات الدستورية، وآحاد من النساء يشاركن فى البرلمان والحكومة، وأمينة المرأة فى حزب الأغلبية تصف المتظاهرات بأنهن أصحاب أجندات خارجية وتهدد فى عنجهية لم يجرؤ عليها الحزب الوطنى فى ظل جبروته بأن قومها سيصبحون أسياد المجلس القومى للمرأة وسيخرجون منه أعداء دين الله هكذا مرة واحدة. سحل وكشوف عذرية ومحاكمات عسكرية للنساء ومجتمع ظالم يلتمس العذر للجانى ويخطئ الضحية، وجمعية تأسيسية على الأبواب يتحكم فى تشكيلها النواب الذين يستعيض بعضهم عن صورة المرأة بزهرة. فكيف إذن لا أشارك أنا أو غيرى فى مسيرة 8 مارس إحياء لليوم العالمى للمرأة؟
فى الساعة الرابعة والنصف يبدأ تحرك المسيرة، اللافتات المرفوعة تعبر بدقة عن الهدف من التجمع وهو التمسك بمكتسبات المرأة والتأكيد على حقها فى المشاركة فى عضوية الجمعية التأسيسية. لذلك وجدنا لافتة تحمل السؤال التالى «ليه عاوزين تلغوا القوانين اللى صاغوها مش فاسدين؟»، وأخرى تنفى تهمة التبعية للنظام السابق بالقول «إحنا مش أولاد سوزان، دى مش حجة يا إخوان»، وثالثة تطالب بالإسهام فى تشكيل نظام ما بعد الثورة كما يلى «لينا حق ولينا دور وعاوزين حقنا فى الدستور». كان هذا إذن هو حال اللافتات المرفوعة، أما الشعارات التى رددها المشاركون فذهبت كل مذهب، نددت بحكم العسكر ودعت لإسقاطه، وذكرت بحق الشهداء وأكدت على القصاص لهم، وكررت المطالبة بثلاثية الثورة الشهيرة أى العيش والحرية والكرامة الإنسانية، ورفضت التبعية لأمريكا ونددت بهروب المتهمين. كان تعدد الجهات المشاركة فى الحشد، من نقابات وحركة 6 أبريل والاشتراكيين الثوريين وكفاية وفصائل أخرى كثيرة، مبررا لهذا التشتت فى الهتافات فطالت المسيرة واكتظت بالمشاركين لكن خف فيها وزن قضية المرأة. بدأ القلق يداخلنى فجميع الشعارات المرفوعة لها مشروعيتها بالتأكيد لكن لا موضع لها فى هذه المسيرة، وأظن آخرين أيضا ساورهم القلق فحاولوا ضبط إيقاع الهتافات لكن دون جدوى.
●●●
قرب نهاية شارع طلعت حرب علا صوت نسائى جهورى هاتفا «بَلَا إخوان بَلَا سلفية.. المرأة فى التأسيسية والنسبة50%». استدرت أبحث عن مصدر الصوت فكان لدهشتى لسيدة منتقبة تميل إلى البدانة لكنها تتحرك فى خفة شديدة، تضع نظارة طبية فوق النقاب وتتدلى من كتفها حقيبة فضية اللون. الحماسة الشديدة التى كانت تهتف بها تردد صداها فى جموع السائرين فكرروا من ورائها الهتاف تلو الهتاف. وفى كل ما هتفت به هذه المرأة فإنها لم تفقد للحظة واحدة الخيط الذى انعقدت من أجله هذه المسيرة، نصرة قضايا النساء وإشراكهن فى كتابة الدستور. هكذا هتفت وكثيرون معها للمواطنة المتساوية بين المرأة والرجل «حق محمد زى فاطمة هى دى تبقى المواطنة»، وبين المرأة المسلمة والمرأة المسيحية «صوت المرأة طالع طالع م الكنايس والجوامع»، وبين المرأة المنتمية للتيار الدينى والمرأة فى مختلف التيارات السياسية الأخرى «إسمع إسمع يا بديع حق المرأة مش هيضيع». لأسباب مفهومة تحولت هذه المرأة فورا إلى قبلة لكل الكاميرات وآلات التصوير، وفقدت أثرها عدة مرات عندما كانت تنتحى جانبا لتدلى بحديث لهذه الصحيفة أو تلك القناة، لكنها كانت سرعان ما تلتحق بالمسيرة فألتقيها مجددا ويلعلع صوتها فى إصرار «لابسة صليب أو لابسة خمار اللى اتسحلت م الثوار».
استطاعت هذه المرأة القوية التى عرفتُ لاحقا أن كنيتها أم عبدالرحمن أن تنجح فيما فشل فيه آخرون فتوجه بوصلة المسيرة، أو على الأقل الدائرة المحيطة بها، فى الاتجاه الصحيح. حتى اللافتة البيضاء التى تشبثت بها لبعض الوقت ودافعت عنها وسط الزحام كانت لصبية فى الرابعة عشر من عمرها هى الشهيدة هدير عادل سليمان التى سقطت برصاص الغدر فى جمعة الغضب، وكأن أم عبدالرحمن تريد أن تقول إن المرأة حين تطالب اليوم بدور فى صنع الدستور فإن أحدا لا يمن عليها كما لم تمن امرأة على الوطن بالشهادة. كثيرات هن النساء اللائى صافحن أم عبدالرحمن بحرارة لافتة وعانقنها على امتداد المسيرة، وأتاح لى القرب منهن أن أرسم صورة أوضح للمرأة اللغز. هى ثائرة لم تبارح أرض الميدان طيلة ثمانية عشر يوما، لازمها أولادها الأربعة طول الوقت لأنه لا أحد يضمن ما يأتى به الغد. جاهزة للتظاهر فى كل حين حتى إذا صنع بعض شباب الإخوان حائطا بشريا يمنع المتظاهرين من الاقتراب من مجلس الشعب كانت هى فى طليعة المتقدمين ونالتها جراء ذلك ضربات. بدت لى أم عبدالرحمن امرأة واعية، شجاعة، تعرف بالضبط ما تريد، وهى اليوم 8 مارس تريد إثبات حضور المرأة فى كشف المواطنة. فيها خفة ظل فطرية بدت عندما سألتها شابة فى فضول إن كانت تعمل فأومأت برأسها قائلة: أستاذ مساعد فى المعهد العالى للدراسات المعدنية بين قوسين الفلزات، وجسدت معنى الاستثناء الكامل عندما التقت عند ميدان سيمون بوليفار مع فتاة أخرى منتقبة صغيرة الحجم تضع عصابة بيضاء على رأسها مكتوب عليها «مدنية.. مدنية».
●●●
تاهت منى أم عبدالرحمن للمرة الثالثة والأخيرة قرب نهاية المسيرة عند مقر مجلس الشعب، لكن المؤكد أنها كانت هناك فى المقدمة ترفع عقيرتها بالهتاف «صوت المرأة ماهوش عورة.. صوت المرأة ثورة ثورة»، ولا تستخدم الميكرفون إلا نادرا، تتحرك بثقة وحرية كأنها وحدها فى المكان مع أنها محفوفة بمئات، والأهم أنها تبعث برسالة طمأنينة لكل القلقين على مستقبل هذا الوطن ودور المرأة فيه، رسالة تقول إنه رغم هول ما نعيشه هذه الأيام، فإن الصدق مع النفس مثله مثل الأمانى ما زال أمرا ممكنا.