آراء حرة
عبد الرازق أحمد الشاعر يكتب: الخارجون عن النص
لم تفهم هديل هشلمون ما قاله الجنود الصهاينة وهم يوجهون سنابك البنادق نحوها، ولم تحمها يداها المرتعشتان فوق رأسها من زخات الرصاص. لكن المؤكد أن هديل لم تشعر بالعجز وهي ممددة في بركة دمائها، ولم تتألم وهي تجر من كاحلها فوق الرصيف بعد نصف ساعة من الانتظار الممض أمام حاجز تفتيش “الشهداء” بالخليل. لم يسأل أحد عن المدية التي كانت تصوبها المغدورة نحو رقبة عبرية، ولم يلتفت ضابط إلى شهادة المغلوبين على قهرهم هناك، لأن الفريسة مجرد “فلسطينية”.
وعند مسقط رأس باروخ الذي قتل بدم بارد ذات غدر تسعة وعشرين مصليا، لم يستطع محمد فارس أن يرفع رأسه أو يدفع لحم الخنزير الذي ألقاه متطرف صهيوني فوق جبهته، وظل ينزف نصف دمه وما تبقى له من حياة تحت أقدام حراس الحدود الذين وجهوا فوهات بنادقهم إلى الداخل بعد أن أمنوا مكر الحدود.
وفي القدس الشرقية، حاولت مرح البكري أن تضع ناظريها في الأرض قدر الحياء، وأن لا تلتفت إلى متحرش صهيوني بالغ في البذاءة. لكن عصبتها من الحرائر، وكتبها التي ضمتها في عزة إلى صدرها، لم تدفع عنها الكلمات النابيات ولا زخات الرصاص التي اخترقت جسدها النحيل من كل صوب بعد أن ألقى الصهيوني سكينا على الأرض وصاح “إرهابية مسلحة”.
في فلسطين، لا يمكنك اتقاء الإهانة والطلقة والعقاب الجماعي حتى وإن كنت مسالما حد المهانة، فالرصاص الطائش هناك لا يفرق بين يد ارتفعت بالمدية، وأخرى بالبياض. فالبقاء فوق أشلاء الأرض المغتصبة هو الجرم الأكبر الذي يستحق الفلسطينيون عليه الموت والتنكيل. ولن يستطيع الساقطون من أوراق التاريخ أن يتطهروا من ذنوبهم إلا بالرحيل أو الموت.
“لا أستطيع النظر إلى وجه عربي لأنني عنصرية جدا، ولدت في بيت يفيض بالعنصرية. ولو أتيح لي أن ألتحق بالجيش لأقتلهم لما فكرت مرتين. وأنا على استعداد لقتل أحدهم بيدي العاريتين هاتين.” تقول فتاة عبرية في دراسة قام إيدان يارون ويورام هارباز على مدار ثلاثة أعوام بإعدادها. وفي “مشاهد من الحياة المدرسية” يمكن تتبع أثر المقدس في تشكيل الهوية العنصرية لدى أبناء صهيون من خلال أمثلة واقعية تفيض كلها كراهية وتعصبا ومقتا.
“لقد وهبنا الله هذه الأرض، وقد كانت خرابا. لم نطرد العرب، لكنهم فروا. ولم نبدأ الحروب لكنهم فعلوا. ومتطرفوهم يريدون قتلنا لا لشيء إلا لأننا يهود.” لا مجال إذن للاعتراض على مشيئة “رب” يأمر بالقتل والسحل والتشريد، وطالما أن اليهود استعمروا الأرض بعد خراب، فليس للفلسطينيين حق الدفاع عن جرداء “لم تعد لهم”. وعلى “المتطرفين” العرب أن يلقوا أسلحتهم ويمدوا أيديهم بالزيتون لمن جرف الأرض وأحرق المحاصيل، لأن “رب صهيون” شاء ذلك، ولأنهم “أبناء الله وأحباؤه.”
اليوم ينفض الفلسطينيون غبار الانتظار، بعد أن فقدوا الأمل في أي غد “عربي” عزيز. وبأيديهم يقررون جز سنابل الوقت ليحصدوا أي نتيجة أخرى. اليوم، تثأر المُدى لترسانات الأسلحة، ويحمى المدنيون بصدورهم العارية آلاف الثكنات، ويسبحون على الحجر كي لا تفوتهم فريضتا الصلاة والدفاع عن المقدسات. اليوم تنتفض فلسطين، وتتمرد على صمتها، لتعيد وضع القضية على موائد الكبار، وترد الأمانة التي أبى العرب أن يحملوها دهرا إلى ناصية الأحداث.
ها هم الفلسطينيون يخرجون من زجاجة رافائيل إيتان ليثبتوا للعالم أنهم ليسوا حفنة من “الصراصير المخدرة”، وأنهم جديرون بالحياة والحرية. وها هو سحر العنصرية التي وضعه المستوطنون في تربة فلسطين ينقلب على الساحر ليجني أبناء صهيون ما زرعت لحاهم.