كتاب 11
ماهية الاختلاف بين الدين والعلم
هناك فرق بين من يقرأ أي نص، ولنقل هنا النص الديني، بخلفية معرفية دينية وحسب، وبين من يقرأ هذا النص بخلفية معرفية علمية حديثة صرفة، وثالث يقرأه بخلفية معرفية دينية تختلط معها معرفة علمية حديثة. قراءة الأول ستكون على الأرجح خاضعة لسلطة المرجعية الدينية، مع استبعاد أي مرجعية أخرى، علمية أو غيرها. قراءة الثاني ستنطلق في الغالب من المرجعية العلمية الحديثة، مع استبعاد أي مرجعية أخرى، دينية أو غيرها. أما قراءة الثالث، فستحاول على الأرجح التوفيق بين المرجعيتين الدينية والعلمية. السؤال في هذه الحال: هل تعكس اختلافات القراءة هذه لنص ديني، اختلافات في درجة الإيمان والتدين، وبالتالي عمق الانتماء إلى دين، ولنقل هنا الدين الإسلامي؟ من الممكن جداً أن الثلاثة ينتمون مثلاً إلى الدين نفسه (الإسلام مثلاً)، وبالتالي يؤمنون بالشهادة وكل مقتضياتها، ورغم ذلك قد يصل كل واحد منهم، وهذا هو الأرجح، إلى نتيجة تختلف بهذه الدرجة أو تلك عن النتيجة التي وصل إليها الآخر من قراءة النص نفسه.
بل إن هذا الاختلاف يحصل في حال انتماء الثلاثة ليس إلى الدين نفسه فحسب، بل إلى الرؤية العقدية نفسها والمدرسة الفقهية ذاتها. والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى. لكن خذ مثالاً اختلاف الشيخ محمد بن عبدالوهاب عن إمام المذهب الذي ينتمي إليه أحمد بن حنبل في موضوع علاقة رجل الدين أو الفقيه بالسلطة السياسية. اشتهر عن ابن حنبل (توفي 241هـ/855م) زهده السياسي واعتزاله الخلفاء وأصحاب السلطة. واختلف ابن عبدالوهاب عن إمامه في هذه المسألة. لكنه مثل إمامه، لم يكن طامعاً في سلطة سياسية، وهو ما يؤكده تاريخه وتاريخ الحركة التي أطلقها في منتصف القرن الثاني عشر من الهجرة (الثامن عشر من الميلاد). كلاهما يتفق على وجوب طاعة ولي الأمر، ما يدل على أن موقف ابن حنبل من الخلفاء لم يكن تعبيراً مبطناً عن معارضة جذرية لهم، بقدر ما أنه كان تعبيراً عن وجل ديني أفضى به إلى زهد سياسي. في حين أن ابن عبدالوهاب (توفي 1206هـ/1792م) الذي ظهر بعد ابن حنبل بنحو تسعة قرون، أي في بيئة اجتماعية وسياسية مختلفة تماماً، كان ناشطاً سياسياً إلى جانب دوره الديني، وبالتالي نظر إلى الموضوع من زاوية مختلفة، وقرأ النصوص المتعلقة به من زاوية مختلفة أيضاً، انطلاقاً من اختلاف الظروف والأعراف والمصالح. من هذه الزاوية، اتفق ابن عبدالوهاب مع إمامه في شيء، واختلف معه في شيء آخر، وهي اختلافات تنتمي طبعاً إلى فروع المذهب لا إلى أصوله.
بل إن الشخص نفسه قد تتغير قراءته للنص ويتغير رأيه بتغير مرحلته العمرية وتجربته وتغير البيئة التي يعيش فيها. ولعل قصة الإمام الشافعي من أشهر الأمثلة في التاريخ الإسلامي على ذلك، إذ إن رؤيته الفقهية عندما كان في العراق تغيرت بعدما انتقل إلى مصر. يقول الشيخ محمود أبو زهرة في هذا الموضوع عن الشافعي إنه «نسخ… بكتابه (الفقهي) المصري كتابه البغدادي». وينقل عنه قوله: «لا أجعل في حل من روى عني كتابي البغدادي» (تاريخ المذاهب الإسلامية، ص477).
هذا في ما يتعلق بالاختلاف وإمكانه داخل إطار معرفي واحد هو إطار الفكر الديني. ولعل من الواضح أنه إذا كان اختلاف البيئة والظروف والتجربة يقود إلى اختلافات بين من ينتمون إلى الدين نفسه، فما بالك بمن ينتمون إلى عوالم فكرية ومنهجية مختلفة، بل ومتناقضة أحياناً. سيقال إنه مع التسليم بذلك فإن إمكان الاختلاف داخل الدين الواحد دليل آخر على أن الدين لا يختلف عن العلم في شيء. وهو قول منافٍ للواقع ولطبيعة كلٍّ من الدين والعلم، ويخلط بين المقدمة والنتيجة التي قادت إليها. الفيصل هنا هو المنهج، وليس الاختلاف في حد ذاته. لأن الاختلافات التي أشرنا إلى بعضها داخل الفكر الديني إنما هي تعبير عن الطبيعة البشرية: اختلاف الأفراد ومشاربهم، واختلاف المجتمعات والبيئات التي ينتمون إليها، واختلاف مراحلهم الزمنية، أكثر منه تعبيراً عن اختلاف المنهج المستخدم في هذه الحال، وإلا فالدين كمنهج معرفي ينطلق من منطق خاص به يبقى شيئاً مختلفاً عن العلم، وأعني بذلك العلم بمعناه الحديث، وليس كما هو شائع في الثقافة الإسلامية («الحياة»، 13/11/2013). وعلى هذا الأساس فإن الاختلافات بين العلم والدين هي في الأساس وأكثر من أي شيء آخر، اختلافات في المنهج والمنطلقات، وفي المنطق الذي يصدر عنه كل واحد منهما.
طبعاً هذا لا يعني بأي حال نفي حضور العقل وفعاليته في الدين، وبالتالي في الفكر الديني. لكن الحقيقة هي أن هذا العقل خاضع أخيراً لسلطة الوحي، وبالتالي لسلطة النص الذي جاء به. ونتيجة لذلك يبقى العقل خاضعاً لسلطة التقليد المترتبة عن سلطة النص. أما في المنهج العلمي، فالأمر ليس كذلك. لأن العقل في هذا المنهج غير خاضع لسلطة خارجة عنه. من هنا، فالعلم بمعناه الحديث هو في نهاية المطاف إعمال للعقل، بآليات وضوابط علمية (لا فلسفية ولا دينية) للحصول على المعرفة: معرفة الطبيعة والنواميس التي تخضع لها، ومعرفة الإنسان باعتباره جزءاً من هذه الطبيعة، والبيئة الاجتماعية التي ينتمي إليها.
الغريب أن كثيرين من أصحاب الفكر الديني يعتبرون أن تصادم المنهج العلمي مع منهجهم مؤشر على تصادم مع الإرادة الإلهية. وفي الوقت نفسه يصرون، كما أشرت، على أن الدين لا يختلف عن هذا العلم في شيء.
لكن بما أن العقل، كمرجعية نهائية للعلم، بعمله وآلياته من خلق الله، وأنه بذلك جزء من الطبيعة بنواميسها التي هي أيضاً من خلق الله، وكموضوع وحيد للعلم، ألا يكون العلم في هذه الحال تعبيراً عن إرادة الله؟ هل يمكن أن يكون العلم تعبيراً عن هذه الإرادة ومناهضاً لها في الآن ذاته؟