كتاب 11
الخيار الوطني
الأحداث الإرهابية التي وقعت أخيرا في السعودية أخرجت من الصدور كثيرا من المشاعر التي كانت مكبوتة ولم يكن بالإمكان التعبير عنها، ولكن من إيجابيات
التقنية الحديثة أنها أتت بوسائل للتواصل الاجتماعي مكنت كثيرين من التعبير عن آرائهم ومواقفهم بوسيلة فعالة ومؤثرة جدا.
وقد كانت ردود الفعل الشعبية في معظمها تصر وتؤكد على أهمية التكاتف «الوطني» ومنع «الفتنة» من الإرهاب ومؤيديه، مع عدم إغفال وجود بعض الأصوات الشاذة عددا وفكرا التي كانت تعلق على الحادثة بكلمات لا يمكن أن توصف إلا بالمحرضة والمؤججة للعدوانية والعنف. السعوديون يكتشفون أنهم بحاجة بعضهم إلى بعض مهما كانت «أشكالهم» مختلفة و«خلفياتهم» متنوعة ولهجاتهم «متعددة» وعاداتهم «مشكلة»، فهم بالتدريج يستيقظون لقدرهم الحتمي لأنهم في بلد يحتضن ويتشرف بوجود الحرمين الشريفين فيه، وفية قبلة المسلمين ومرقد الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه، فليس بالتالي غريبا ولا مستغربا أن تكون السعودية نفسها مرآة وانعكاسا للعالم الإسلامي نفسه بتنوعه وثرائه.
روح وطنية تتولد، روح فيها خشية على بلد «مستهدف»، روح باتت تميز الغث والسموم مما هو حق وصالح ومفيد، وبالتالي أصبحت لديهم قدرات قلبية على معرفة الصواب من الخطأ فلا ينزلقون بسهولة وسذاجة أمام الشعارات البراقة والمليئة بالمعاني والمفردات الطائفية والدموية التي لا غاية منها سوى التفرقة وتكوين الهوة والفتنة داخل المجتمع الواحد. هناك وعي جمعي آخذ في التكوين وبقوة وخصوصا في الجيل الجديد الذي قرر الانفتاح على آفاق العلم والمعرفة وفضاء العالم والتعايش والوسطية في الطرح والتمعن في الثراء والتنوع الموجود في بقاع الأرض.
من منطلق «رب ضارة نافعة» و«عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم»، السعوديون وهم يرون بحكمة وتدبر حقول الموت في أكثر من مكان حولهم، ويرون شباب بلادهم يساقون إليها بالعشرات ليكونوا وقود النار والفتنة، يعلمون حجم التحدي الذي يواجهونه و«يخافون» على بلادهم من تبعات ما يحاك لها في الخفاء. ولعل الهدف الأهم لمن يتقصد السعودية هو اللعب على وتر الطائفية والمذهبية لاختراق وشرخ النسيج الوطني، مستغلين المتطرفين الموتورين المؤدلجين في الداخل والخارج الذين «يعيشون» لأجل لحظات الموت هذه.
لا يوجد أمام السعوديين إلا الخيار الوطني والتمسك به لأن البديل مفزع ومخيف، فبالتالي لا يوجد مناص من رفع سقف تجريم من يقوم بالتشكيك في ولاء وانتماء أي مواطن تحت أي ذريعة أو رأي، ويستخدم ذلك تبريرا للتمييز والتفريق والمفاضلة بين أبناء الوطن الواحد. يعي اليوم عدد كبير من السعوديين أن بلادهم تخوض اختبارا «جديدا» مع الإرهاب بشكله المتطور، ولكنهم لديهم في ذات الوقت ثقة عظيمة واحترام هائل في قدرات أجهزة الأمن في بلادهم، وهي الأجهزة المعدة جيدا والمدعومة بخبرة سنوات من المهنية والاحتراف العملي في مواجهة أخطر أنواع الجماعات الإرهابية على مر السنوات الأخيرة، وأصبحت هذه القوات مضربا للأمثال من ناحية كفاءتها وقدراتها وفعاليتها مقارنة بمثيلاتها في نفس المجال حول العالم بأسره.
الأحداث الإرهابية الأخيرة ولدت إحساسا لدى السعوديين بالخوف على بلادهم هي الوطنية الفطرية، وهو الإحساس الذي وصفه ذات يوم سيد الخلق صلى الله عليه وسلم بأن حب الأوطان من الإيمان، وهي يجب أن تطغى على كل الشعارات المضللة مهما كان بريقها عظيما. فلتُحمَ هذه المشاعر بأنظمة وقوانين وتشريعات تؤسسها بقوة وتمنع العبث بها.