كتاب 11
زنزانة ماتا هاري
يقولون في الأمثال: «اغلق مدرسة تفتح سجنًا».
وكان من حظي أن أحضر، أمس، تطبيقًا معكوسًا لهذا المثل. إنه مجمع ثقافي جديد يقع بجوار محطة قطارات الشرق، في باريس، تستقبلك في باحته الأمامية، يا للعجب، عشرون نخلة من نوع غير مألوف، طويل الجذع قصير السعف. ما الذي هو مألوف هنا؟
كنت أسمع أن مستشفى «سان لازار» العتيق كان يشغل قطعة الأرض الفسيحة هذه. ثم عرفت أن المستشفى كان في الأصل مزرعة انقلبت، في القرن السابع عشر، إلى منطقة عازلة لمرضى الجذام، قبل أن تصبح دارًا للأيتام. وبجوار الميتم شيدوا سجنًا للنساء ظل قائمًا حتى منتصف الثلاثينات. والسجن صار مستشفى تقصده نساء المتعة العاملات في تلة «مونتمارتر» وجادة «بيغال» لإجراء الفحوص الدورية المقررة عليهن. ومع إطلالة القرن الحالي لم يبق في المكان سوى مستوصف وكنيسة بحجم الكف. وكان لا بد من ورشة لاستثمار مفيد لهذه الأرض التي تبلغ مساحتها 4 آلاف متر مربع وتقع في أكثر مناطق العاصمة ازدحامًا. إن من يستثمر هو الدولة. ولذلك فلا تتوقعوا أن ينبت من الأرض مركز تجاري أو فندق من فئة الكذا نجمة.
رأيت مبنى من خمسة طوابق مشيدًا بالحجارة البيضاء، تسبقه حديقة منسقة وله جناحان. فيه قاعات للعرض الفني وصالات للمطالعة والموسيقى والعروض المسرحية واستراحة لطيفة للعمل أو الاسترخاء. والمهم لجرذان القراءة أن هناك مكتبة تحوي 77 ألف كتاب و10 آلاف أسطوانة رقمية. وحسب الكتيب المطبوع بمناسبة الافتتاح، فإن جدلاً طويلاً دار حول الإبقاء على شجيرات ليمون معمرة كانت مزروعة في المكان، أو اقتلاعها بسبب هرمها واستبدال نخلات مُحسّنات بها. وانتصرت النخلات الطويلة الرفيعة التي لا تشبه نخيل بلادي لكنها من بنات أعمامه وفيها شيء من رائحته.
كل هذه الديباجة لأصل إلى اللب. فقد حلّت في سجن النساء القديم هذا، سجينتان سياسيتان. وهي تسمية حديثة نسبيًا لكنها تصلح للوصف. الأولى لويز ميشيل، المعلمة والمناضلة النسوية الداعية للعدالة الاجتماعية وأحد أبرز وجوه «كومونة باريس». وبسبب آرائها سُجنت أكثر من مرّة ولوحقت من الشرطة ونُفيت إلى جزيرة كاليدونيا، وهناك زادت طينتها بلّة، فانضمت إلى الحركة الفوضوية وكانت أول من رفع العلم الأسود، رمزًا للحرية المنفلتة من كل قيد.
وعندما عادت إلى باريس جرى اعتقالها مجددًا بسبب شعبيتها بين الناس لكنها لم ترعوِ لحين وفاتها مطلع القرن الماضي، وهي فوق السبعين.
السجينة الثانية هي ماتا هاري. أشهر جاسوسة في زمانها. وقد ولدت عام 1876 لأب ميسور يملك مصنعًا للقبعات في بلدة ليواردن الهولندية. ولما أفلس اضطرت إلى الزواج، وهي دون العشرين، بضابط كان يخدم في المستعمرات، أخذها معه إلى جزيرة جاوة الإندونيسية، حيث تعلمت الرقص. وبعد طلاقها شدّت الرحال إلى باريس التي كانت، في تلك السنوات المبكرة من القرن العشرين، قبلة الأنظار. ولم تجد الهولندية الجميلة غضاضة في العمل راقصة شرقية، مستفيدة من سمرة بشرتها وشعرها الداكن. صار اسمها ماتا هاري، أي «عين النهار»، وقد بلغ من شهرتها أنها رقصت على مسرح «أولمبيا» في باريس و«لاسكالا» في ميلانو.
لما قامت الحرب العالمية الأولى، عادت إلى بلدها ليصطادها القنصل الألماني ويجندها جاسوسة لحسابه. وقد منحها اسمًا حركيًا هو «العميل رقم 21». لكن التجسس يريد رجالاً ونساء من طينة صلبة، وفشلت ماتا الجميلة في امتحان الكتمان وكانت تتباهى بعلاقتها بالقنصل. وقد حاول الفرنسيون استغلالها كعميلة مزدوجة، ثم تخلوا عنها قبل انتهاء الحرب وحاكموها وأصدروا عليها حكمًا بالإعدام وأودعوها زنزانة في السجن الذي سيصبح، بعد مائة سنة، دارًا للثقافة تحمل اسم الروائية فرنسواز ساغان.
قبل بضع سنوات، طلبت بلدية ليواردن، مسقط رأس ماتا هاري، من ناشط يدعى ليون شيرمان، أن يسعى لتبييض صفحة ماتا هاري. وقدم شيرمان، وهو متقاعد فرنسي عجوز كان أستاذًا للفيزياء طلبًا إلى وزيرة العدل لإعادة محاكمة الجاسوسة الشهيرة التي ظهرت عنها عدة أفلام سينمائية. وكانت الحجة أنها وقعت ضحية خطأ قضائي. لكن ما فات فات. ففي فجر خريفي قاتم من عام 1917، في غابة فنسين، واجهت ماتا هاري فرقة الموت بخفة عجيبة وكأنها في نزهة. ولما أراد أحدهم ربط منديل على عينيها لكي لا تتعذب وهي ترى الجنود يتأهبون للإطلاق، رفضت وسخرت منه وقالت عبارتها الشهيرة: «في سبيل جمالي تعذبت أكثر».