آراء حرة

08:03 مساءً EET

محمد رفعت الدومي يكتب:قبر

 
يضبط القلائل .. القلائل جدًا، قاطنو الأرواح الفردية بشكل خاص، ساعاتهم الداخلية علي الانسحاب من الوحدة في صخب النهار إلي الامتلاء الروحيّ سكون الليل وذلك الجمال المسور عليه، هذا إذا تنحَّت القوي السلبية في الطبيعة جانبًا، ولأنني كائن ليليٌّ حظيت وأمي بالنصيب الأوفر من الوجع، لقد رأيت أبي كثيراً وهو يخلِّص نومه من النار الشائكة


أتذكر أني بعد منتصف ليلة النهار التالي لذهبنا إلي الطبيب بالكثير من الحدآت الزمنية، تسللت إلي غرفته في حذر، ونظرت من بيت المفتاح المهجور فصدمني الألم صدمة قاسية، لقد رأيته ممددًا علي سريره، خده الذي علي راحته، نظراته البعيدة، عمامته المرتجلة، واهتزازات رأسه الرتيبة، تراجعت إلي الوراء، ورجعت مرة أخري بخطوات تخلي عنها الحذ، طرقت الباب خفيفاً، فالتقطت أذناي، فقط، صوت ارتعاشة السرير وأنات جدتي القادمة من الخلف، نظرت مرة أخري من بيت المفتاح المهجور في الباب المغلق علي الأسرار المحتجزة، فضبطته يتظاهر بالنوم، أنا الذي ضبطته منذ حدأتين سائراً في شوارع سوداء تتثاءب عن عرائش لا تبتكر العناقيد، تتبعثر الدنيا حوله غابة من التين الشوكيّ غابة من التين الشوكيِّ ، ثم تعود من الأطراف إلي مركز لا يباشر تربية الوردة، وثبتت ذاكرتي اللحظة!

 

ولكنَّ عينيَّ حتي تلك الحدأة الزمنية لم تبتكرا دمعة واحدة، كان الدمع مقيدًا إلي سطحهما بغابة من السلاسل الحريرية المنطلقة من صفر القلب  المفعم، لكن، سوف تنكسر السلاسل، فجأة ، وسوف أعرف هذا في ساعة كانت تختبئ في تجاعيد المستقبل الذي واكب قبونا في عصر اليوم التالي شديد اللزوجة ، لقد كان الرماد يسكن السحاب بوضوح أكثر مما ينبغي!


كنت أجلس إلي جواره، وإلي جواره أمي و “إسلام”، وانتبهتُ وانتبهت أمي إليه وهو يحاصر إسلام بنظرات لم أكن أتصور أن الصغير سوف ينجو من أطرافها الحادة، والمتواصلة، ثم قال، فجأة، وبعض الدموع في عينيه:


تعالي فـ باطي يا إسلام!
 

عندما امتثل إسلام انخرط هو في عناقه المرضيِّ وهو يقبله بشهية عصبية الوتيرة، تلك اللحظة، طارت طرق اليمام كلها لم يتسع قلبي لهذا العذاب، فنهضت واستدرت وخرجت من قبونا صاعداً ببذل المزيد من الجهد إلي عتمة الشارع في الطريق إلي عزلة، كانت طلائع الدمع آنذاك تكتشف وجهي، فاكتسبت ملامح وجهي القادمة، ثم كان الانهيار، ثم التحول الذي أجدني حتي الآن أفتقد ذاك الغريب الذي كنته قبل تحققه، وأجلس الآن حول ركامه بارتياح تام، وحول تراكماته، وعبر ذاك الغريب أتمَّ يقيني



ببساطة الأشياء امتلائه!

حاولت في الليل الدخول متأخرًا من باب القصيدة، ربما لأتفادي الذهن
ومنحنياته التي تتهافت حول الوداع من تلقائها، أو لأوجهه وجهة أخري علي
الأرجح، ودخلت فلم أبتعد أبدًا عن حالتي ، كما لم أبتعد أكثر من حزمة من
الأبيات الركيكة:


تذوبُ بفعل الاستحواذ ماساتُه، ويؤكد الورمُ البقــاءا

وتعقدُ غابةُ السرطان أعضاءَه – متضمناً فيها – دمـاءا

وينمو الموتُ من تلقائه في اسمِهِ؛ ويرجُّ في دمِه الشتاءا

ويملأُ سطحَ قافيتي دموعاً.. ويملأُ سطحَ خيمتنا عـراءا


ونبعٌ مشرعٌ للدفء رَبَّي.. برودَتهُ الذي ربَّي الوعاءا


ويحفرُ فقـدُه فينا شقوقاً.. وتمنعُ بيتنا النارُ العطاءا


كأنَّ القبرَ تعبيرٌ حقيرٌ عن الإنسان .. لا يعني السماءا


هنا، وهناك، يتَّحدان عندي ولكن .. ما تقاربَ أو تنائي


سأنسي حالتي في الدمع حتي أردَّ أبي .. وما أنأي البكاءا


إن مجرد قراءتي الآن لهذه القصيدة يكفي بالقدر الذي يجعل انخراطي في
الدهشة يعمل، لقد كنت أنظر إلي أبي وهو حيٌّ يمارس مثلي بقاءه نظرتي إلي
ميت وقَّع حياته ومضي، بدقة أكثر، نظرتي إلي نعش متحرك، ولست وحدي وإنما،
كان شعور كلِّ أفراد العائلة يتَّحد بشعوري، بل لقد انخرط البيت في حزننا
حتي أن جثة في البيت قد وجدت التعبير عنها في كل مكان فيه، وابتكر لها
كلٌّ منا الرائحة التي تناسبه، ولقد تسللت إلي البيت في تلك الأيام حزمة
من المفردات الحوشية المهجورة، الحوشية المهجورة بحماية عبثية الحديث
عنها قبل وقت الحاجة طبعًا، مفردات مثل القبر وضرورة تعهده ، و “اسماعين
الفحار” وضرورة تعهده ببعض المال أو الغلال، والجنازة ، وضرورة ادخار بعض
النقود لها حتي لا نفتضح أمام الآخرين جرَّاء وداع ركيك له!


يدهشني الآن أكثر أننا كنا في ذلك الوقت نسمي القبر قبرًا قبل أن يعمِّره
ذلك الذي ننسِّق له وداعاً لائقاً وهو بيننا، وسوف نكتشف من ذلك الوقت
وحتي موته الباهظ أنه كان أكثرنا قوة، وأكثرنا استهانة بالموت، ليس هذا
فقط، بل، وهذا موطن الغرابة، كان أكثرنا اعتقادًا بالعمر الطويل، لم
ينزلق أبي أبداً كما ينبغي في الفجوة الشهيرة حيث ينبغي له!


لقد ظلّ حنينه القديم للبحث عن الكنز نشطاً، ولكنه أصبح تحت ضغط عضلة
العجز وتحذيراتنا محتجزًا!


ولقد اشتري بعد عامين وبعض العام من اكتشاف إصابته المباشرة بالسرطان
تلاً من القماش المختلف الألوان يكفي حداثة هندامه لسلة من الأعوام
المؤجلة ، واستدعي الترزي إلي بيتنا ليأخذ مقاساته، وسافر معه في مساحات
الكلام في غياب فكرة الغياب تمامًا مع ” عوض “،  ذلك القبطي القادم من
نجع الزعرة” ليختبر جيوب الدوميين وأسرارهم ويكتسب بدانته الطارئة ، وهو
يوصيه بأسلوب العمل اللائق وبالمقاربات الجمالية التي ترضيه، واتساع هنا
وضيق هناك، وطول هناك، وقصر هنا، وكان “عوض”، وهو المطلع علي جسامة مرضه،
بل علي عدد ساعاته المتبقية علي طرف الزمن، بل وهو المطلع علي أدق دقائق
أسرار “الدومة”، حتي أن مساره المهنيَّ اللائق كان لابد أن يكون
الجاسوسية لا الحياكة، لدهشتي البالغة، يستمع إلي كلماته في اهتمام رحب،
ويتظاهر بالتفكير أكثر مما ينبغي، ويدوِّن بقلم من الرصاص ملاحظاته بخط
ركيك علي ورقة باهتة!


لقد حدث ذلك قبل موته بعشرين يومًا أو أقلّ!

 

 








 

Normal 0 false false false EN-US X-NONE AR-SA

التعليقات