آراء حرة

08:31 مساءً EET

محمد حمادى يكتب:سد النهضة.. ودبلوماسية المياه المصرية

حظي اتفاق إعلان المبادئ لسد النهضة بقدرٍ كبيرٍ من اهتمام المراقبين والمحللين السياسيين، فضلاً عن اهتمام الأوساط الرسمية والإعلامية المختلفة. ويكشف هذا الشغف بتلك القضية ما وصلت إليه وتيرة التفاعلات  (المائية-السياسية) في حوض النيل في الآونة الأخيرة، ولاسيما قبل توقيع اتفاق إعلان المبادئ، إلى درجة كبيرة من التصعيد السياسي.

 

ولقد أسهمت التطورات الأخيرة في قضية مياه النيل في تأزيم الموقف، ولاسيما في ضوء استدعاء مقولات “حرب المياه” –الوشيكة- التي وردت غير مرة في تصريحات رئيس وزراء إثيوبيا الراحل “ميليس زيناوي”. وبالتوازي مع تلك التطورات، جاء إعلان إثيوبيا -أحادي الجانب- في فبراير 2011 عن اعتزامها بناء “سد النهضة” بمواصفات فنية، من شأنها تهديد الأمن المائي المصري. وشرعت إثيوبيا بوضع حجر أساس السد في 2 أبريل 2011، لتبدأ منذ ذلك التاريخ حلقة جديدة من حلقات التفاوض لإدارة الصراع المائي بين مصر وإثيوبيا.
 
وبطبيعة الحال، أثارت تلك التطورات مخاوف جمة لدى قطاعاتٍ واسعةٍ في المجتمع المصري. ومن ثم، بدا أن “منهج التهويل” هو الطرح الرائج في التعامل مع قضية مياه النيل بصفة عامة، والعلاقات المصرية-الإثيوبية بصفة خاصة.
 
بيد أن التوقيع الثلاثي لمصر والسودان وإثيوبيا على “وثيقة إعلان مبادئ سد النهضة” في هذه اللحظة الزمنية أسهم في تنقية كثير من الأجواء في العلاقات المصرية- الإثيوبية. وبطبيعة الحال، كان الاتفاق المذكور محل تجاذب في الرؤى والتصورات، وتباينت بشأن تقييمه الآراء والمواقف ما بين مؤيد وماعرض.
في هذا السياق، وبعيدًا عن التهويل أو التهوين، يمكن تحليل “اتفاق إعلان مبادئ سد النهضة” من منظور “التحديات الراهنة في حوض النيل”، وضرورات الاستجابة معها مرحليًا، وذلك حتى يمكن تلمُّس رؤية مستقبلية وموضوعية للسياسة المائية المصرية تجاه تلك التحديات.
ويؤسس الاتفاق، ولأول مرة، لمرحلة جديدة من التعاون والتنسيق فيما يتعلق بتشغيل السدود، حيث يوفر أرضية صلبة لمبادئ حاكمة تضمن التوصل إلى اتفاق كامل بين مصر، وإثيوبيا، والسودان حول أسلوب وقواعد ملء خزان السد وتشغيله السنوي بعد انتهاء الدراسات المشتركة الجاري إعدادها، فضلاً عن إنشاء آلية تنسيقية دائمة من الدول الثلاث للإشراف على والتعاون في عملية تشغيل السد بما يضمن عدم الإضرار بمصالح دول المصب. وهى خطوة في غاية الأهمية خلال المرحلة الحالية، وستكون أكثر إلحاحية خلال السنوات القادمة، في ضوء الخطط المستقبلية لإقامة السدود في كل من إثيوبيا والسودان.
وتعد “دبلوماسية المياه” واحدة من الدبلوماسيات الجديدة وغير التقليدية التي شاعت في الآونة الأخيرة في ممارسات العلاقات الدولية، شأنها شأن: “الدبلوماسية النووية”، و”دبلوماسية التنمية”، و”دبلوماسية المال”، و”دبلوماسية البترول”، و”دبلوماسية المرأة”، و”دبلوماسية الشباب”. ولعله من المفيد القول إن فعالية “دبلوماسية المياه” تزداد إذا ما اقترنت بالصيغ غير النمطية من الدبلوماسية، وبصفة خاصة “دبلوماسية القمة”.
إن تأمل التحركات الدبلوماسية الحثيثة، قبل وأثناء وعشية توقيع إعلان مبادئ سد النهضة، يكشف عن نشاطٍ ملحوظ لتفعيل دائرة حوض النيل ضمن دوائر السياسة الخارجية المصرية، وقد تجلى ذلك بوضوح من خلال حرص القيادة السياسية المصرية على تحيُّن الفرص والمناسبات الرسمية لعقد لقاءات رئاسية مع قادة وزعماء دول حوض النيل، والاجتماع في عديد المناسبات مع رئيس وزراء إثيوبيا “هيلا ميريام ديسالين”، لدرجة أن الحركة الرئاسية أصبحت تفوق في سرعتها وتواترها حركة المؤسسات الأخرى.
 
وتتجلى “دبلوماسية المياه” كذلك في الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس المصري للدولة الإثيوبية في اليوم التالي لتوقيع إعلان المبادئ، وهي الزيارة التي كانت مرتقبة منذ ثلاثة عقود، وتضمنت زيارة لعدد من المؤسسات الرسمية الإثيوبية، أهمها البرلمان الإثيوبي، ومن خلاله كانت مخاطبة الشعب الإثيوبي بتصريحات بالغة في الدقة والدلالة. حيث جاء التصريح الرئاسي للرئيس عبد الفتاح السيسي، حين قال: “إن توقيع إعلان مبادئ سد النهضة الإثيوبي هو أولى خطوات طريق التفاهم والتقارب بين مصر، والسودان، وإثيوبيا”، مُلحقًا ذلك بتصريح حاسم يؤكد أولوية المصالح المائية المصرية بقوله: “إن مصر ليس لديها تحفظات على مشروعات التنمية في إثيوبيا المرتبطة بسد النهضة بشرط مراعاة حقوق مصر المائية”.
ان “دبلوماسية المياه” المصرية تفرضها معطيات الوضع  لمصر، كون “الدائرة النيلية” لمصر تتمثل جغرافيًا فيما يمكن تسميته “النظام الإقليمي المائي لحوض النيل”، والتي يتم من خلالها العمل على إدارة العلاقات  (المائية-السياسية) في حوض النيل، والحفاظ على المصالح المائية المصرية مع دول الحوض، في إطار من تفعيل التعاون، وإعمال منهج التنمية المتواصلة والعادلة لموارد النهر بهدف تحقيق النفع المشترك والمتبادل لجميع الدول النيلية، وفق “منهج اربح – اربح” كما قد يتطلب الأمر في بعض الأحيان من “دبلوماسية المياه” المصرية أن تقوم بإدارة “التفاعلات الصراعية” لصون الأمن المائي المصري.
ولا يمكن إعادة بناء علاقات مصر بدول حوض النيل من خلال دبلوماسية المياه المقترحة إلا من خلال سياسة إفريقية مساندة.

التعليقات