كتاب 11
الفخ المنصوب لمصر
إلى أي مدى يمكن أن تذهب مصر في مواجهتها للخطر الآتي من ليبيا، وفي الرد على قتل فرع «داعش» الليبي لواحد وعشرين من مواطنيها الأقباط بطريقة وحشية أثارت موجة واسعة من الغضب والاستهجان، على غرار ما حدث بعد حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة بطريقة مروعة؟
بعد الغارات التي شنها الطيران المصري على مواقع التنظيم بالتعاون مع سلاح الطيران الليبي التابع للحكومة «الشرعية» التي يرأسها عبد الله الثني، انقسم الناس بين مطالب برد أقوى وتدخل أوسع لمواجهة «داعش» والتنظيمات المتطرفة التي تتمدد في ليبيا، وبين محذر من مغبة أي تدخل بقوات برية يمكن أن يجر مصر إلى حرب مكلفة، وغير مضمونة النتائج. هناك من ذهب إلى حد القول إن الغارات التي شنتها مصر هي ما كان يريده «داعش»، لأنه يتغذى من التصعيد والتوتر ويستفيد من أي تدخل خارجي لاستقطاب «مقاتلين» على غرار ما حدث في سوريا والعراق.
الواقع أن مصر، مثلها مثل الأردن، لم يكن بمقدورها أن تقف مكتوفة الأيدي عن الرد على جريمة قتل مواطنيها على أيدي جزاري «داعش». لكن كل من تابع مسار حروب الإرهاب، يعرف أنها مكلفة وتحتاج إلى صبر وموارد هائلة، والأهم من ذلك إلى تعاون محلي وإقليمي ودولي. فمن دون ذلك لن تتحقق أي نتائج ملموسة وسيصبح التدخل العسكري استنزافا منهكا بلا نتائج حاسمة. الغارات الجوية تعتبر ردا محدودا ووقتيا، ولا يمكن تصور أنها وحدها ستزيل خطر الدواعش والميليشيات المتشددة المسلحة في ليبيا، لكن مصر إذا تدخلت بريا لوحدها، فإنها تكون قد جرت إلى فخ يريده المتطرفون لإشغالها بحربين، واحدة في أقصى الشرق في سيناء، والأخرى في أقصى الغرب في ليبيا، وهو وضع صعب لأي جيش نظامي، ومستنزف لأي بلد.
ليس سرا أن هناك أطرافا تريد إثارة القلاقل في مصر وإسقاط نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي. وليس سرا أيضا أن جماعات «الإخوان» والميليشيات المتطرفة تسعى للسيطرة على السلطة في ليبيا بقوة السلاح وسياسة فرض الأمر الواقع، وتجد في ذلك دعما من أطراف خارجية تلتقي مع حركات «الإخوان» في حلم إسقاط النظام في مصر، ومحاولة السيطرة على أكبر بلد عربي. من هنا يمكن النظر إلى الأحداث الأخيرة وصعود فرع «داعش» الليبي، وجريمة قتل 21 قبطيا مصريا. فهناك خيط رابط بين كل هذه الأمور والهدف تطويق مصر وتوريطها، بل وجرها إلى معارك لاستنزافها وإنهاك جيشها، الذي وقف حائلا بين «الإخوان» وبين أملهم في السيطرة على مقاليد الأمور بعد صعودهم السريع على ظهر ثورة يناير (كانون الثاني) 2011.
انتقاء 21 قبطيا وقتلهم بتلك الطريقة البشعة، لا يمكن أن يفهم إلا على أنه أمر مدبر بهدف استفزاز الدولة المصرية ومحاولة إثارة فتنة طائفية أيضا. فعندما أعلن فرع «داعش» الليبي في يناير الماضي عن اختطافه لهؤلاء العمال الأقباط المصريين، أشار إلى ذكرى الهجوم على كنيسة سيدة النجاة في بغداد الذي قتل فيه 52 شخصا جلهم من المسيحيين العراقيين، وتبنى تنظيم ما يسمى دولة العراق الهجوم وقتها. وكان التنظيم قد استهدف قبل ذلك المسيحيين العراقيين بهجمات في الموصل وغيرها وطالبهم بالرحيل، وذلك في إطار استهداف الأقليات ومساعي إثارة فتن طائفية. وللتذكير أيضا فإن مهاجمي كنيسة النجاة في بغداد عام 2010 شنوا هجوما على الكنيسة القبطية في مصر، وطالبوا بالإفراج عن «مسلمات مأسورات» في أديرة مصرية.
محاولات إشعال فتن طائفية كانت من أهداف الدواعش في ذلك الهجوم ببغداد، مثلما هو الحال في عملية ذبح الرهائن الأقباط المصريين التي أريد بها تأجيج المشاعر وإحداث قلاقل لمصر، واستنساخ تجربة «داعش» في العراق وسوريا. فولاية طرابلس الداعشية لا تختلف عن ولاية سيناء المزعومة، وكلتاهما أعلنت الانتساب إلى دولة أبو بكر البغدادي اللا إسلامية.
ما تحتاجه مصر الآن هو استخدام ثقلها للتحرك بهدف تشكيل تحالف يضم الراغبين والقادرين من الدول العربية لمواجهة الإرهابيين، ومنعهم من تحويل ليبيا إلى سوريا أخرى أو عراق أو يمن آخر. فإذا كانت الدول الأفريقية قادرة على تشكيل قوات مشتركة للحرب ضد الإرهابيين والتدخل في بؤر النزاع، فما الذي يمنع العرب من ذلك، وهم الذين يواجهون الخطر الأشد، والعبث الأكبر في بلدانهم وأمنهم؟
قد يقول قائل إن حال التشرذم العربي يحول دون ذلك وإن ميثاق الجامعة العربية يقيدها، وهو كلام صحيح وواقع مرير لا يمكن إنكاره، لكن الأمور لم تعد تحتمل هذا العجز مع استمرار مسلسل تدمير الجيوش وتمزيق الدول العربية. فلتكن البداية التحرك لتشكيل تحالف الراغبين لإنقاذ ليبيا قبل أن تنمو فيها «دولة» داعشية أخرى، وقبل أن تمتد النيران لتحرق مصر أيضا.